مقال ⁄ثقافي

دموع الساكسفون

دموع الساكسفون

التقابه

كتب عوض احمدان 

 

    بعد مضي أكثر من أسبوعين، علي رحيله المباغت، أخرج لتوي من دوائر الحزن المطبق، الذي سكن الدواخل، منذ مساء يوم الرحيل الاسود، الذي نعاه إليّ فيه كثيرون...

أحاول جاهداً ،ان اكتب بضع كلمات،بعد فداحة الخطب، وعِظم المصيبه، التي اودت بحياة، العقيد (م) الموسيقار المعروف، محمد الحسن بابكر(السنجك)، إثر (دانة) هبطت علي منزله بحي الدوحه بامدرمان، لتنقله في لحظات، إلي مصاف الشهداء، الذين اصطفاهم الله، ليطرقوا أبواب الجنان، بإذن الله، في شهر رمضان الكريم...

حديثي عن(السنجك) تحفه الصِعاب من كل جانب، كونه حديث عن التاريخ، الذي تتطلب روايته، الدقه والتروي، والتأكد من صدق المعلومه،فالسنجك(يرحمه الله) جزء من تاريخنا الثقافي ، صنعه مع آخرين، ليبقي منارةً، تضي دروب عشاق الثقافة، ومرتادي عوالم الفنون..كان ميلاده في مطلع الثلاثينات، تدرجت خطواته، في شعب الحياة المختلفه، حتي تخرجه عازفاً لالة الكمان، في معهد القرش عام ١٩٥٠م، بعد اتقانه لحِرفة (السروجيه) في ذات المكان....بدأ(السنجك) رحلة العزف مع كبار المطربين، وفي إحدي(الحفلات) بحي الوابورات ببحري، لمحه الفنان، رمضان حسن، أبدي في الحين، شدة إعجابه ، بطريقة تعامله علي الكمان، حيث دعاه لياتيه في الغد، ليقدمة إلي لجنة رابطة الفنانين بامدرمان، التي كان يجلس علي سُدة الرئاسه فيها، الفنان حسن سليمان(الهاوي)، ويتولي الفنان، عثمان الشفيع، مهمة السكرتير العام، نظرت اللجنة في طلب ، (السنجك) كعضو جديد، وعملت علي إجازته وضمه ، إلي صفوفها، عام ١٩٥١م، دون أن تختبره،كما تفعل مع الآخرين، وما حاجتها إلي ذلك، بعد ان وثق فيه،واثني عليه ،فنان بحجم رمضان حسن...

 بدأ نجمه في الظهور، حتي الحقته شرطة مديرية الخرطوم، بفرقتها الموسيقيه، تدرج في صفوفها، حتي تقاعد برتبة العقيد...

كان (السنجك) من أبرز العازفين في اوركسترا الإذاعة السودانية، التي استعانت به، لينضم إليها، بعد ان خاطبت شرطة مديرية الخرطوم، وجد أمامه ، وبعده، عدداً من خيرة العازفين، بدر التهامي، عثمان خضر، عبد الفتاح الله جابو، عبد الله عربي، احمد النقر، اونسه ارباب،موسي محمد ابراهيم، محمديه، حسن خواض، محمد المصري، خميس مقدم، الزبير محمد الحسن، خميس جوهر، فرح ابراهيم، حسين جاد السيد، بشير عباس، برعي محمد دفع الله، علي مكي، علي ميرغني، الحاوي، عثمان بشير، حمزه سعيد، علي ابوديه، حرقل، ابراهيم عبد الوهاب،احمد المبارك، محمد الضي، احمد قرعم، محمد الحسن سمير، احمد داوود، محمد جبريل، محمد الحسن كنانه، محمد عثمان(الهارت)، عبيد محمد احمد،الطيب خليفه، عوض رحمه، حموده، عز الدين يوسف، بنداس، عبد الرحمن عمر، سليمان اكرت، الفاتح الهادي، دفع السيد صباح الخير، عمر مشيل، عز الدين فضل الله، رمضان ترنتي، حمد اسماعيل،وغيرهم كثير...

التزم (السنجك) بملازمة الكمان، إلي ان تحوّل إلي(الساكسفون) بايعاز من الدكتور علي شمو، حينما طلب اليه ذلك،في إحدي(سهرات) التلفزيون، التي غني فيها وقتها، الفنان محمد وردي،لتبدا مرافقة (السنجك) لالة الساكسفون، برفقة الرواد، احمد المصطفي، حسن عطيه، عثمان الشفيع، التاج مصطفي، الكاشف، عبد الحميد يوسف، الهاوي، عبد العزيز داؤود، عثمان حسين، محمد وردي، الكابلي، بن الباديه، خضر بشير، ابراهيم عوض، العاقب محمد حسن،الفلاتيه، مني الخير، فاطمه الحاج، مهله العباديه، الرحمه مكي،صلاح مصطفي، الجابري،ثلاثي وثنائي العاصمه، عبد الدافع عثمان، صالح سعد، ابراهيم إدريس(ود المقرن) صلاح محمد عيسي، خليل اسماعيل ،زيدان إبراهيم، د عبد القادر سالم، احمد فرح،الأمين علي سليمان، خالد محمد أحمد، عبد الرحمن بشير (ود الشاطي) ، إدريس الأمير، وغيرهم...كان مطلوباً من الجميع، يشاركهم الأداء، داخل البلاد وخارجها، صانعاً للإبداع، وناثراً للفرح في كل مكان، حتي اتخاذه بمحض ارادته، قرار الاعتزال، وتوقف العزف،بعد رحيل صديقه، الفنان الكبير عثمان حسين، عام ٢٠٠٨م، عمد إلي آلة الساكسفون، قام بتفكيكها، وجمع اجزائها في(كرتونه)، رفعها اعلي (الدولاب) داخل غرفته، تفوح منها روائح تاريخ طويل، كانت حجته في ذلك قولته المشهوره...(بعد عثمان حسين، ما بقيف تاني ورا فنان اعزف معاه).. ياله من وفاء نادر، ظلل حياة اولئك الرواد، كانوا بمثابة الجسد الواحد، إذا أشتكي منه عضو، تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي.. 

كان (السنجك) مثقف لا يشق له غبار، قاريء حصيف، ومتحدث لبق، كاتب مجيد، ومناقش مقنع،يقيم الحجة بالدليل والبرهان، جمع تاريخه كله في سفرٍ فخيم، كانت صفحاته الاسفيريه، تعج بآلاف المتابعين،ينشطون في تعليقاتهم، فيجدون منه الرد، في التو والحين.. كان (السنجك) من العابدين الزاهدين،يراقب الله في خطواته، له ورد معلوم، من تلاوة القرآن، والأذكار، يداوم علي ذلك في كل الأوقات، والأحوال، لا يصرفه عن ذلك شي، كان تقياً وورعاً،مد الله في عمره، وبارك له في أيامه ، حتي عاش نيفاً وتسعين عاماً، ابتلاه الله في حياته، بموت، زوجته، فصبر واحتسب، ثم فقد اثنين من أبنائه، رحلا بعيداً عنه، انفطر قلبه لرحيلهما، وما زاده ذلك، إلا قرباً من الله، اذعاناً له، ورضاءً بقدره، وامتثالا ً لأمره.

علاقتي بالسنجك، علاقة التلميذ باستاذه، اجالسه واحادثه،واصلي إليه، حرصاً للاستفاده، من معين خبراته، وتراكم معارفه، شرفني كثيراً، بالحديث إلي برنامجي(ملامح سودانية) في ثمان حلقات متواصله، بالإذاعة السودانيه، تصلح ان تكون كتاباً بذاته، إذا لم تطالها إيدي(الجنجويد) الاثمه، التي عبثت، بموروث الإذاعة الفخيم.. عندما اندلعت شرارة التمرد، قبل عام، لم يشأ(السنجك) مغادرة داره، بحي الدوحه في أمدرمان، ظل مقيماٌ وسط عدد من أبنائه والاحفاد، يدثره ويحيطه، إيمان قوي، فالموت سيدركه ولو كان في حصون عاليه، أو قصر مشيد،كانت قناعته ان يقبض الله روحه، كيف يشاء، فكانت الخاتمه، وكانت الشهادة، بهدم غرفته عليه، فيما أصيب أفراد اسرته، بالجروح المتفاوته، ما ذالوا يتلقون العلاج منها، نسأل الله لهم العافيه..

قبل رحيله بنحو خمسة أيام، جمعني الهاتف، في مهاتفة طويله، مع إبنه، وصديقه، مولانا منير محمد الحسن،كان محور الحديث، عن السنجك، حاله واحواله،وكيفية اجلائه والأسره من مسكنه، بعد تأزم الموقف في حي الدوحه، لم تمضي أيام، حتي وقع المقدور،ليملا الألم الصدور..

في نوفمبر من عام ٢٠٢٢م، اعتمدت وزارة الثقافة والإعلام والسياحه، بولاية الخرطوم، خطةً لتكريم الرموز والأعلام ، حظيت ليلة الكاشف، بتكريم، الموسيقارين، عبد الفتاح الله جابو، ومحمد الحسن السنجك، باعتبارهما من شركاء النجاح في رحلة الكاشف، كان ذلك في المسرح القومي بامدرمان، وسط حضور كبير، كان السنجك ، سعيداً، بتكريمه الذي اضطلع به، وأشرف عليه، والي الخرطوم الهمام،الأستاذ، أحمد عثمان حمزه، الذي ما زال يؤدي دوره ، بهمة عالية، رغم ويلات الحرب المفروضه. 

أكتب هذه السطور، وأعلم قبل غيري، ان السنجك، سيخلف وعده ، هذه المره، بعدم قرأتها والتعليق عليها، ذهب بعيداً في رحلة الخلود الأبدي، ينعم بفيض من الخيرات الذي أعده الله، لامثاله من المتقين. كل العزاء، لصديقنا مولانا منير، ولاخوانه وأخواته، أبناء السنجك، واشهد انهم نالوا بِرّه في حياته، وسيواصلون الدعاء له إلي يوم الدين، والمواساة لقبيلة الإبداع والفنانين، الذين انهد ركن بنيانهم القويم، أخص الصديق، الفنان نجم الدين الفاضل، رئيس الإتحاد، الذي بادر بنعي السنجك، من مغتربه البعيد...

وسلام عليك يا فقيد الكل بين الخالدين.

لمشاركة الخبر عبر شبكات التواصل