منتدى اختر فرنسا يجذر موقعها وجهة أوروبية أولى للاستثمارات الخارجية

إذا كان الرئيس إيمانويل ماكرون، بعد عام واحد فقط من انتخابه، قد أطلق المنتدى الاقتصادي - الاستثماري «اختر فرنسا»، الذي التأمت نسخته الثامنة في «قصر فرساي» الملكي التاريخي، الاثنين؛ بهدف اجتذاب المليارات من الاستثمارات المباشرة إلى الاقتصاد الفرنسي، فإنه ما زال مواظباً على إطلاق مبادرات إضافية، كانت الأخيرة «اختر أوروبا من أجل العلوم» التي أطلقها من باريس، بداية الشهر الحالي، مع المفوضية الأوروبية.
وواضح أن باريس تريد الاستفادة من التضييق الذي تمارسه إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، على الباحثين والأكاديميين والمعاهد والجامعات؛ لاجتذابهم ومراكزهم البحثية وشركاتهم إلى أوروبا، وتحديداً إلى فرنسا.
In Versailles, alongside more than 200 leaders of major foreign companies, to tell them with conviction: choose France! pic.twitter.com/fsUxWhr3SX
— Emmanuel Macron (@EmmanuelMacron) May 19, 2025
وقبل ذلك، أطلق ماكرون «قمة الذكاء الاصطناعي» التي اجتذبت لبلاده وعوداً استثمارية وصلت إلى 107 مليارات يورو. والواضح أن فرنسا تريد اللحاق بالركب الريادي في هذه المنافسة العالمية بشأن «الامتلاك المعرفي والتطبيقي للذكاء الاصطناعي» بعد التأخر الذي عانت منه فرنسا، كما بقية الدول الأوروبية، قياساً بما حققته الصين والولايات المتحدة ودول آسيوية أخرى.
العمل على تنويع هوية المستثمرين
لا يشذ منتدى «اختر فرنسا» عن هذا التوجه الذي تحول إلى موعد سنوي رئيسي للمستثمرين؛ إنْ من القطاع الخاص، أو من الصناديق السيادية العالمية. وتدل الأرقام المتوافرة والمتصاعدة على ذلك، فنسخة عام 2022 اجتذبت 6.8 مليار يورو، ليقفز الرقم إلى 13 ملياراً في العام الذي تلاه، ثم إلى 15 ملياراً في 2024.
أما حصاد هذا العام، فقد وصل، وفق ما أعلنه الرئيس الفرنسي شخصياً، إلى 37 مليار يورو، منها 20 ملياراً استثماراتٍ جديدة، و17 ملياراً تفعيلاً لوعود استثمارية في الذكاء الاصطناعي. وما أراد ماكرون قوله وكرره مجدداً أمام من لا يقلون عن 200 رئيسِ ومديرِ شركة كبرى توافدوا إلى فرنسا، (من أوروبا 40 في المائة، ومن الولايات المتحدة 19 في المائة، ومن الخليج وآسيا) أن الاقتصاد الفرنسي جاهز لاستقبال هذه الاستثمارات، وأن باريس تراهن على قوة الجذب متعددة الأشكال التي تنعم بها لترجمة مبدأ «رابح رابح» واقعاً، مستنداً في ذلك إلى الإصلاحات الاقتصادية والمالية والضريبية التي أجرتها الحكومات المتعاقبة منذ 8 أعوام، وأبرزها، بالنسبة إلى الشركات المحلية والأجنبية، خفض نسبة الضرائب المفروضة عليها.
بالفعل، فإن النظر في هوية المستثمرين الجدد، يظهر أن بينهم سعوديين وصينيين وسويديين ومن الولايات المتحدة، مما يعكس أمرين؛ الأول: رغبة فرنسا في تنويع شراكاتها الاقتصادية. والثاني: تنوع الاستثمارات التي تشمل: الطاقة النظيفة، والذكاء الاصطناعي، والبنوك والصناعة المالية، والإنتاج السينمائي والتلفزيوني، والصحة، والسياحة. بيد أن اكتمال الصورة يفترض الإشارة إلى أن عدداً من الشركات الفرنسية، المتخوفة من سياسة التعريفات الجمركية التي لجأت إليها الإدارة الأميركية الجديدة بوصفها سلاحاً جديداً، دفعت بها إلى الإعلان عن استثمارات ضخمة داخل الولايات المتحدة.
وعلى سبيل المثال، فإن شركة «سانوفي» الفرنسية الفاعلة في البحث الطبي وصناعة الأدوية أعلنت عن استثمار 20 مليار دولار داخل الولايات المتحدة، كذلك فعلت شركة «سي جي إم - سي إم آي»؛ إحدى أهم الشركات العالمية في النقل، خصوصاً البحري، التي يديرها رجل الأعمال اللبناني - الفرنسي رودولف سعادة، التي أعلنت بدورها عن استثمار 20 مليار دولار داخل بلاد العم سام.
وفي المقابل، أعرب مسؤولون في «سانوفي» عن عزمهم على استثمارات جديدة في فرنسا لا تزيد على مليار يورو واحد. وأثار إعلان «سانوفي» الضخم عن استثماراتها الأميركية جدلاً واسعاً في فرنسا التي لطالما يؤكد رئيسها ماكرون ويدعو إلى ضرورة تحقيق «الاستقلالية الوطنية» في القطاع الدوائي. وقد برز قصور الشركات الفرنسية مع احتدام جائحة «كوفيد19» حين تبين أن أدوية أساسية (وأحياناً بدائية) غير متوفرة ويتعين استيرادها من الصين أو الهند.
خلال الكلمة التي ألقاها في «منتدى فرساي»، توجه ماكرون إلى رجال الأعمال بقوله: «لقد قدمتم كثيراً من الاستثمارات في مجالات مختلفة: الذكاء الاصطناعي، والاتصالات، والهيدروجين الأخضر، والاقتصاد الدائري... هذه نسخة شاملة للغاية، فقد أُعلنَ عن استثمار 20 مليار يورو (جديدة)، و17 مليار يورو أخرى استثماراتٍ في الذكاء الاصطناعي، متابعة لقمة فبراير (شباط) الماضي». وأضاف الرئيس الفرنسي: «علينا أن نستثمر أكثر بكثير في الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الخضراء، والدفاع والأمن؛ خصوصاً لأن الأمر أصبح سباقاً».
ومن بين التعهدات التي أُعلنت، فإن شركة الخدمات اللوجيستية الأميركية العملاقة «برو لوجيس» تنوي استثمار 6.4 مليار يورو في 4 مراكز بيانات بمنطقة باريس، بينما تخطط شركة «ريفولوت» البريطانية، المختصة في التكنولوجيا المالية، لاستثمار مليار يورو على مدى السنوات الثلاث المقبلة للتوسع في فرنسا. كما ستتقدم بطلب للحصول على رخصة مصرفية فرنسية.
كذلك صدرت تعهدات مماثلة من صندوق «إم جي إكس» الإماراتي المختص في الذكاء الاصطناعي، ومن شركات مثل «أمازون»، و«Common Metals Limited» البريطانية في قطاع المعادن الأرضية النادرة. وستبني شركة «تيكيفير» البرتغالية مصنعاً لتجميع الطائرات من دون طيار في جنوب غربي فرنسا.
إشكالية «الاستثمار وتوفير فرص العمل»
حقيقة الأمر أن الفورة الاستثمارية تترافق، من جهة، مع فورة سلبية عنوانها «ازدياد تسريح آلاف العمال والموظفين في فرنسا» خلال الأشهر الأخيرة، ومن جهة أخرى، مع الصعوبات التي تعاني منها القطاعات الصناعية التقليدية؛ إنْ في فرنسا أو على المستوى الأوروبي، مثل قطاعات: صناعة السيارات، والصناعات الكيماوية، والصلب، فشركات كانت تعدّ سابقاً رائدة، مثل «أرسيلور ميتال» و«ميشلين» و«فاليو» و«فانسوريكس»، أعلنت عن برامج تسريح. كما أن هناك مصانع تغلق أبوابها. لذا؛ فإن ماكرون وحكومته يواجهان ضغوطاً اجتماعية واقتصادية تطالبهما بالضغط على الشركات المعنية لوقف التسريح؛ لا بل إن أصواتاً تدعو إلى «تأميم» الشركات التي تعدّ أساسية بالنسبة إلى الاقتصاد الفرنسي.
وإذا كانت الفورة الاستثمارية تعكس الوجه الإيجابي للاقتصاد الفرنسي الذي يحتل، وفق التقرير الذي أعدّته شركة «إرنست آند يونغ» للتصنيف، المرتبة الأولى بوصف باريس الوجهة الأولى أوروبياً جذباً للاستثمارات الخارجية، فإن الاقتصاد المذكور ليس في أفضل حال داخلياً، ففرنسا تعاني من وطأة مديونية مرتفعة، ومن حاجتها إلى خفض عجزها في الموازنة التي أقرتها الحكومة بتأخير يزيد على الشهر.
ثمة صعوبة أخرى عنوانها: «ضعف انعكاس الاستثمارات الجديدة على العمالة». ورغم أن منتدى «اختر فرنسا» أطلق ما لا يقل عن 178 مشروعاً جديداً واستثمارات فاقت 47 مليار يورو، فإنه لم يطلق دينامية جديدة في إيجاد فرص وظيفية. ففي فرنسا، ما زالت نسبة البطالة تصل إلى 7.4 في المائة؛ لا بل إنها ارتفعت في الأشهر الأخيرة. ورغم الإصلاحات، فإن أرباب عمل ما زالوا يشكون من «ثقل» البيروقراطية. وقال فريدريك دوفال، المدير العام لشركة «أمازون - فرنسا» إن «فرنسا بلدٌ جذّاب، لكنها يمكن أن تكون أفضل؛ إذ هناك عوائق كبيرة، أولاها المتاهة الإدارية الكبيرة إلى حدٍّ ما التي يتعين التغلب عليها».
واعترف ماكرون بذلك، الاثنين، بمناسبة تدشين مصنع جديد للشركة الألمانية «دايملر تراك» بقوله: «الحفاظ على فرص العمل، وتحقيق التقدم في مجال الابتكار... يتطلبان أحياناً خوض معارك في فترات صعبة، والتصدي لها، وفعل ذلك بثبات وعلى المدى الطويل».
aawsat.com