الطائرات دون طيار تحدث نقلة جديدة في عالم التشييد والبناء

في عصرٍ تتسارع فيه التطورات التكنولوجية، لم تعد الروبوتات حكراً على المصانع أو المختبرات؛ فقد باتت تحلِّق في السماء، حاملةً معها أدوات البناء والمواد الخام، في مشهد يبدو أقرب إلى الخيال العلمي، لكنه أصبح واقعاً بفضل ما تُعرف بـ«الروبوتات الطائرة» أو الطائرات المسيَّرة (الدرونز) المتخصِّصة في أعمال البناء.
وبينما كانت استخدامات الطائرات الروبوتية في قطاع البناء تقتصر في الغالب على أعمال المسح والمراقبة ورسم الخرائط، فإن تحديات متزايدة مثل ارتفاع تكاليف العمالة، والحاجة إلى تحسين الإنتاجية وجودة البناء، وتقليل الفاقد واستهلاك الطاقة، إلى جانب النمو السريع في عدد سكان العالم، تُعزِّز الحاجة إلى إيجاد حلول مبتكَرة تلبي الطلب المتزايد على المساكن والبنية التحتية في العقود المقبلة.
وفي مواجهة هذه التحديات، يسهم الاتجاه المتزايد نحو الأتمتة في قطاع البناء في تعزيز استخدام تقنيات مثل التصنيع المسبق في الموقع، وتوظيف القدرات الروبوتية في تنفيذ المهام الإنشائية. ورغم الفوائد الكبيرة لكلا النهجين، فإن عمليات البناء التقليدية في الموقع تظل أساسيةً لتنفيذ الغالبية العظمى من المشروعات.
منصات طباعة تجسيمية جوية
وتُقدِّم هذه الروبوتات الطائرةُ حلولاً ثوريةً تتيح تنفيذ المهام في مواقع يصعب الوصول إليها، بسرعة ودقة وكفاءة تفوق القدرات التقليدية، بحسب دراسة، نُشرت في عدد 23 أبريل (نيسان) الماضي، من دورية «ساينس روبوتيكس».
وتتناول الدراسة التي أجراها باحثون بجامعة إمبريال كوليدج لندن البريطانية، مستقبل ما يُعرف بـ«التصنيع الإضافي الجوي (AAM)»، أو «الطباعة ثلاثية الأبعاد الجوية»، وهو نهج جديد في قطاع البناء والتشييد يعتمد على استخدام الروبوتات الطائرة في تنفيذ الهياكل ثلاثية الأبعاد، وتركيب الطوب والكتل مباشرة في موقع العمل.
ويهدف هذا المجال إلى تحويل الطائرات دون طيار إلى منصات طباعة تجسيمية (ثلاثية الأبعاد) محمولة جواً، لبناء أو إصلاح هياكل في مواقع يصعب الوصول إليها، أو في بيئات خطرة مثل الجسور أو ناطحات السحاب. ويمكن لهذا النهج باستخدام الطائرات الروبوتية المُجهَّزة بمعالجات مخصصة للمهام الإنشائية أن يحدث تحولاً كبيراً في استخدام الطائرات الروبوتية في الأنشطة الإنشائية في الموقع.
ووفق نتائج الدراسة، يتميَّز هذا النهج بإمكانية التوسُّع العمودي للأبنية على ارتفاعات عالية، والوصول إلى أماكن يصعب الوصول إليها باستخدام المعدات التقليدية، إلى جانب تنفيذ أعمال صيانة سريعة عند الحاجة. كما تستطيع الروبوتات الطائرة العمل بسهولة على ارتفاعات مختلفة، مما يسمح لها بأداء المهام الإنشائية في مستويات يصعب على الروبوتات الأرضية الوصول إليها عملياً.
وتتمتع هذه الروبوتات أيضاً بالقدرة على الوصول إلى المناطق النائية أو المتضررة من الكوارث، أو البيئات التي يصعب فيها نشر المعدات التقليدية، مثل الجبال أو الأبنية الشاهقة أو الصحارى، متجاوزةً العقبات التي قد تواجه الأنظمة الأرضية، وبذلك يمكن للطائرات الروبوتية، تقليل الاعتماد على العمال في المواقع الخطرة، ما يحدُّ من الحوادث ويُسرِّع وتيرة العمل في مشروعات البناء.
يقول الدكتور يوسف فرقان كايا، الباحث الرئيسي للدراسة من مختبر روبوتات الاستدامة بجامعة إمبريال كوليدج لندن، إن الطباعة ثلاثية الأبعاد الجوية تعزِّز الكفاءة من خلال أتمتة عملية وضع المواد مباشرة في موقع العمل، ما يُلغي الحاجة إلى السقالات أو الآلات الثقيلة. كما تُسهم هذه التقنية في تقليل الأثر البيئي عبر تقليص الفاقد من المواد والانبعاثات الناتجة عن عمليات النقل.
حلول مرنة وتحديات مستقبلية
وأضاف، لـ«الشرق الأوسط»، أن الطائرات دون طيار تتمتع بمرونة عالية، كونها مستقلةً عن طبيعة التضاريس، وقادرةً على العمل في الأماكن المرتفعة أو الضيقة، مما يجعلها مثاليةً للاستجابة بعد الكوارث، وإصلاح البنية التحتية، أو تنفيذ مشروعات البناء في المواقع التي يصعب الوصول إليها باستخدام الأساليب التقليدية.
تختلف عملية تشغيل الطائرات الروبوتية لأداء مهام «التصنيع الإضافي الجوي» بشكل جوهري عن تقنيات البناء التقليدية، التي تعتمد على مخططات هندسية معدّة مسبقاً، إذ لا يزال هذا النهج الناشئ في مراحله الأولية، ويحتاج لمزيد من التطوير قبل اعتماده على نطاق واسع.
ويشير كايا إلى أن نشر هذه التقنية يتطلب التغلُّب على مجموعة من التحديات، في مقدّمتها محدودية الحمولة التي تستطيع الطائرات دون طيار حملها، وقِصر عمر البطارية، بالإضافة لصعوبات تتعلق بدقة الطيران، ومشكلات في أنظمة الاستشعار والملاحة في البيئات الخارجية المفتوحة.
كما يتطلب توسيع نطاق استخدام هذه التكنولوجيا معالجة تحديات علمية وتكنولوجية أعمق، تشمل تطوير منصات الطيران الروبوتية نفسها، وتحقيق تقدم كبير في مجالَي التصميم المعماري وعلوم المواد. وتُعدُّ هذه التطورات ضروريةً لدمج تقنية «التصنيع الإضافي الجوي» بكفاءة في مشروعات البناء واسعة النطاق والموقعية.
aawsat.com