انهيار صحي في السودان نتيجة للحرب دمار المؤسسات تجارة الدواء والعلاج كسلاح

منتدى الإعلام السوداني أم درمان في 30 أبريل 2025 (مركز الألق للخدمات الصحفية) – دفعت الحرب المستمرة في السودان البلاد إلى حالة طوارئ صحية غير مسبوقة، حيث تسببت بتفشي العنف والنزوح والجوع والمرض والوفاة. وفقاً لتصريح شيل صهباني، ممثل منظمة الصحة العالمية في السودان، فإن أكثر من 20.3 مليون شخص، أي ما يزيد عن 40% من سكان البلاد، بحاجة ماسة إلى خدمات صحية. وفي الوقت نفسه، شهدت البلاد انتشاراً واسع النطاق لسوء التغذية، مع وجود 3.7 مليون شخص يحتاجون إلى دعم غذائي فوري.
تداعيات الحرب: دمار المؤسسات ونقص الكوادر
أطلق متخصصون في الصحة العامة في السودان تحذيراً حول الأثر الكارثي للحرب على الوضع الصحي. وتقول أخصائية طب المجتمع (الصحة العامة)، الدكتورة ماجدة محمد أحمد: “الواقع الحالي، والذي سيستمر لفترة، يتعلق بالمواطنين الذين سيبقى عدد كبير منهم في القرى والمحليات وليس في عواصم الأقاليم. هذه نقطة أولى يجب أن نأخذها في الاعتبار”.
وتضيف الدكتورة ماجدة، مشيرة إلى نقاط أخرى حرجة: الدمار الهائل الذي لحق بالمؤسسات الصحية: تم استهداف وتدمير المستشفيات الكبرى في العاصمة بشكل كلي، والتي كانت تُعتبر مراكز علاجية رئيسية لكل السودان. كما تدمرت مستشفى الفاشر. ولم يتبق سوى بعض المستشفيات في ولايات مثل حلفا ودنقلا، وهي تستضيف الآن أعداداً كبيرة من النازحين، مما يضع ضغطاً هائلاً على مواردها المحدودة أصلاً. ويشمل الدمار المعدات والأجهزة والأَسِرَّة (جمع سرير).
النقص الحاد في الكوادر الطبية: بقي عدد قليل من الأطباء والممرضين والمسعفين في غرف الطوارئ وحاولوا تقديم المساعدة، لكن اضطر عدد كبير منهم لترك العمل بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى أماكن عملهم أو بسبب استهدافهم. تعرض البعض للاعتقال، وغادر معظم الأطباء المتخصصين البلاد. كما تعرض مساعدون طبيون للاعتقال والإخفاء القسري، وقُتل بعضهم، مثل الاغتيال الأخير للمدير الطبي لمستشفى أم كدادة، والذي سبقه آخرون تعرضوا للتعذيب والسجن بواسطة أطراف النزاع بناءً على هويتهم. لم تعد هناك كوادر كافية لتقديم الخدمات، خاصة في عواصم الأقاليم والخرطوم.
انهيار البنية التحتية الأساسية: تفاقم الوضع بسبب انهيار شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، مما يزيد من مخاطر انتشار الأمراض.
عندما يصبح الوصول للعلاج أداة من أدوات الحرب
تطرح الدكتورة ماجدة سؤالاً حيوياً: ماذا حدث فيما يتعلق بتقديم العلاج؟ وتجيب: “ظهرت سوق سوداء رائجة للدواء، وأصبحت المستشفيات تتعامل مع ‘تجار الشنطة’ للحصول على الأدوية، حتى الخطيرة منها”.
وتضيف: “هناك أمر أكثر خطورة خلقته الحرب ذات الطابع العنصري المتزايد: في المستشفيات والمراكز الصحية التي تقع تحت سيطرة أي من الأطراف المتحاربة، يتم تحديد من يتلقى العلاج ومن يُمنع منه بناءً على الانتماء أو الهوية. وهكذا أصبح الوصول للرعاية الصحية، مثل وضع النساء، أداةً من أدوات الحرب”.
كما كشفت الحرب عن الآثار السلبية لمركزية الخدمات الصحية في الخرطوم وإهمال الأرياف، في ظل إنفاق حكومي متدنٍ على قطاع الصحة (أقل من 2% من الميزانية تاريخياً). تم إهمال المراكز الصحية في الأرياف، حيث تجد المساعد الطبي يعالج الناس ويشتري الدواء بنفسه أحياناً. هذه الكوادر كانت تقدم أيضاً التوعية الصحية وتدرب الممرضين وضباط الصحة، لكن الكثير منهم تركوا العمل أو نُقلوا للعاصمة، مما حرم الأقاليم من الخدمات. أثر ذلك سلباً على وعي المواطن، الذي أصبح يعتمد على الصيدلي للحصول على الدواء وفقد الثقة في مستشفيات ولايته، وأصبحت العاصمة مركز الجذب للعلاج. لم يعد المواطن يعترف بأهمية الصحة العامة والنظافة والغذاء الصحي والسلوك الغذائي السليم، وأصبحت الفكرة السائدة أن الطبيب والدواء هما الحل لكل شيء.
التحديات الصحية الملحة: سوء التغذية وإعادة بناء الثقة
تشير الدكتورة ماجدة إلى التحديات الكبرى: “الحرب وضعتنا أمام تحدي كيفية إعادة الخدمات الصحية في الريف ونشر الوعي الصحي، بحيث تبدأ الخدمات من الأرياف ثم تنتقل إلى المدن الكبيرة. التحدي الأكبر هو أن المواطن لم يعد مقتنعاً بخدمات صحة البيئة أو طبيب المركز الصحي”.
وتضيف: “لنبدأ بما هو غير موجود: هناك تدهور حاد في صحة البيئة، مع وجود جثث متناثرة، ومجاعة، ونسب مرتفعة لسوء التغذية. من بين الـ 25 مليون شخص الذين شردتهم الحرب، يعاني أكثر من نصفهم من سوء التغذية. وأولئك الذين خرجوا من معتقلات قوات الدعم السريع يعانون مما يُعرف بـ’متلازمة إعادة التغذية’ (Refeeding Syndrome)، حيث فقدوا العناصر التي تساعد الجسم على امتصاص الغذاء. وقد توفي جزء كبير منهم، ويجب الإسراع لإنقاذ البقية”.
وتؤكد على ضرورة وضع خطة صحية ترتكز على الأولويات التي فرضتها الحرب: أمن المواطن وقدرته على الحركة، وضمان وصول المعونات الغذائية إليه فعلياً (حيث لا تصل حالياً إلا نسبة ضئيلة).
خدمات صحية تراعي التركيبة السكانية في السودان
أشار الدكتور خالد بدر الدين، أخصائي الصحة العامة، إلى أهمية مراعاة التركيبة السكانية للسودان عند التخطيط للخدمات الصحية. يقول: “تعتبر التركيبة السكانية للسودان الأكثر شباباً على مستوى المنطقة جغرافياً وعلى مستوى العالم، حيث يشكل اليافعون والشباب الأغلبية. وضمن هذه التركيبة، تبلغ نسبة النساء حوالي 50% مقابل الرجال، وهذا يمتد من الأطفال إلى كبار السن. هذا التناسب يشير إلى ضرورة توفير خدمات خاصة لشريحة النساء، لأنهن من أكثر الفئات استضعافاً في السودان حتى قبل الحرب، وكذلك الرجال يحتاجون إلى خدمات صحية خاصة بهم”.
ويضيف الدكتور خالد: “الأمر الثاني هو النظر إلى النظام الصحي الذي كان متهالكاً أصلاً قبل الحرب ويعتمد على المركزية الشديدة. كان هناك تداعٍ ملحوظ للخدمات في الأطراف، حتى المستشفيات الريفية لم تكن مؤهلة لتلبية احتياجات الناس. وكذلك تداعت خدمات الرعاية الصحية الأولية والمراكز الصحية التي يفترض أن تقدم الخدمات الأساسية وتخفف العبء عن المستوى الثالث (المستشفيات المركزية). لكن لفترة طويلة، دعم النظام في السودان الخدمات المركزية على حساب المستويين الأول والثاني. إضافة إلى ذلك، فإن دعم الدولة لقطاعي الصحة والتعليم، وكلاهما مرتبطان ببعضهما البعض، كان الأقل في ميزانية الدولة. وبعد الحرب، زاد الأمر سوءاً بسقوط المستشفيات الكبيرة المتمركزة في الخرطوم ومدني، مما كان له أثر كبير على انهيار الخدمة على المستوى الثالث”.
عودة طوعية محفوفة بالمخاطر في ظل انهيار الخدمات
يتابع الدكتور خالد: “الإشكالية الآن تكمن في النزوح الهائل بسبب الحرب، والرغبة في العودة الطوعية للمواطنين إلى مناطقهم، بافتراض توقف الحرب في بعض الأماكن. لكن هذه العودة تحدث في ظل انهيار كامل للخدمات الصحية”.
ويوضح: “النزوح من الولايات المتأثرة إلى الولايات المستضيفة شكّل ضغطاً هائلاً على النظام الصحي الهش أصلاً، والمستشفيات غير قادرة على توفير الخدمة لكل هذه الأعداد من النازحين. وهناك مشكلة كبيرة في توفر الأدوية وصعوبة وصولها للمناطق المحتاجة بسبب انعدام الأمن. إضافة إلى ذلك، تركت هجرة الكوادر المتخصصة أثراً كبيراً على الوضع الصحي بشكل عام، لأنها كانت تتعامل مع الأمراض المستعصية والمعقدة في المستشفيات المرجعية”.
ويشير إلى أن الأمراض المنتشرة حالياً هي تلك الناتجة عن الازدحام والتكدس في مناطق النزوح، وهي تتطلب رعاية صحية أولية أساسية للوقاية. “يجب أن يكون التركيز على هذا المستوى من الخدمات الصحية لأنه يحد من انتقال الأمراض المعدية. وبما أن النازحين مستضعفون أصلاً، فقد أصبحوا الآن أكثر استضعافاً، وإقبالهم على خدمات متقدمة سيكون ضعيفاً. لذلك، هم بحاجة ماسة للخدمات الأساسية، لأنها ستحافظ على صحتهم بشكل عام، بما في ذلك خدمات التحصين (للأطفال والكبار للوقاية من أمراض محددة) والرعاية الصحية الأولية، ومعالجة الأمراض المرتبطة بسوء التغذية، وهي ظواهر أساسية منتشرة وتحتاج رعاية ومتابعة طويلة حتى يستعيد المصابون عافيتهم”.
التركيز على الكوادر الوسيطة والمجتمع
يؤكد الدكتور خالد على ضرورة الاعتماد على الكوادر الصحية الوسيطة في الوقت الراهن: “ينبغي أن ينصب الجهد على الكوادر من مستوى الأطباء العموميين ومن هم دونهم، فهم الأكثر توفراً مقارنة بالمتخصصين، وقادرون على تقديم الخدمات الأساسية التي يحتاجها الناس في هذه المرحلة. يجب الاهتمام بهذه الكوادر لأنهم الأكثر بقاءً في البلد والأكثر ثقة لدى المجتمعات المحلية. يمكنهم لعب دور مزدوج: وقائي وعلاجي للحاجات الأساسية، ويمكن أن يكونوا محركين أساسيين للمجتمع”.
ويضيف: “الفترة القادمة بعد توقف الحرب، يجب أن تعمل كل الاستراتيجيات على بناء قدرات هذه الكوادر التي عانت من الإهمال وظلت متواجدة في الريف لكن لم تجد حظها من التدريب. أي خطر يلحق بهم هو جزء من الخطر الذي يلحق بأفراد المجتمع، وقد يكونون هم أنفسهم من ضمن النازحين، مما يضمن تواجدهم وقدرتهم على تقديم الخدمات أثناء النزوح أو في مناطق الاستقرار أو عند العودة الطوعية. العالم كله يعتمد الآن على تعزيز برامج الرعاية الصحية الأولية، باعتبارها نقطة التواصل الأولى مع المجتمعات. يمكن أيضاً استخدام خدمات طبية متنقلة (Mobile Services)”.
ويرى أنه “من الجيد أن استراتيجية وزارة الصحة الاتحادية الجديدة تراعي مقدمي الخدمة المجتمعيين وزيادة قدرة الكادر الوسيط لتقديم خدمات أوسع، نظراً لعدم توفر كوادر متقدمة بشكل كافٍ”.
كما أن الحرب تستدعي إشراك المجتمع في تعزيز الصحة. تقديم الوعي الصحي وطرق الوقاية (مثل التعامل مع تراكم الجثث، الحشرات، معالجة المياه المنزلية، إصحاح البيئة، والعودة لوجبات ذات قيمة غذائية) لا يتطلب بالضرورة طبيباً أو ممرضاً؛ الإرشاد الصحي مهم جداً في مواجهة الأمراض التي تتفشى بسبب الحرب.
الوضع في ود مدني والمناطق المستعادة: تحديات مستمرة
حتى في المناطق التي تمكن الجيش من استعادتها، مثل أجزاء من ولاية الجزيرة، لا يزال الوضع الصحي متدهوراً. في منطقة غرب الجزيرة (محليتي المناقل والقرشي)، ارتفعت الإصابات بالملاريا والتيفوئيد والكوليرا والحمى المالطية بشكل كبير، لدرجة إصابة جميع أفراد الأسرة أحياناً. قالت المواطنة عفاف أحمد من منطقة الماطوري إنها وجميع أفراد أسرتها الستة أصيبوا بالملاريا وتلقوا العلاج بتكلفة مرتفعة (80 ألف جنيه سوداني للفرد). واشتكت المواطنة سامية علي من ارتفاع تكاليف العمليات القيصرية.
من جانبه، قال الطبيب الأمين محمد إن القطاع الصحي بولاية الجزيرة شهد تدهوراً كبيراً بعد سقوط أجزاء منها تحت سيطرة قوات الدعم السريع في ديسمبر 2023، مما انعكس على تقديم الخدمات بسبب الحصار وصعوبة دخول الأدوية والمستهلكات الطبية، خاصة مع تفشي الحميات والكوليرا وتلوث مياه الشرب بمخلفات الحرب.
أما في مدينة ود مدني التي استعادها الجيش مؤخراً، فقد بدأت الحياة تعود تدريجياً، وعادت بعض المستشفيات للعمل بعد رجوع عدد من الكوادر الطبية. أكد المواطن سعيد بابو، مريض بالفشل الكلوي، أنه تمكن من العودة وبدأ جلسات غسيل الكلى بمستشفى الجزيرة لأمراض وجراحة الكلى، لكنه اشتكى من ندرة مستهلكات الغسيل كالمحاليل الوريدية.
لا تزال مدينة مدني غير آمنة بشكل كامل، والمستشفيات تعمل بالحد الأدنى. غرف العمليات لا تُفتح غالباً بسبب انقطاع الكهرباء لساعات طويلة، والمياه غير متوفرة باستمرار. المستشفيات لا تعمل بكفاءتها الكاملة، وهناك نقص فظيع في الكوادر الطبية.
وتتطلب الكارثة الصحية متعددة الأوجه نتيجة الحرب استجابة عاجلة وشاملة تركز على إعادة بناء البنية التحتية، ودعم الكوادر الصحية المتبقية، وتوفير الأدوية والمستلزمات الأساسية، وضمان وصول المساعدات الإنسانية والطبية دون عوائق لجميع المحتاجين، مع التركيز بشكل خاص على الرعاية الصحية الأولية في المناطق الريفية والنائية.
هذه المادة من إعداد مركز الألق للخدمات الصحفية، وقد تم نشرها عبر مؤسسات منتدى الإعلام السوداني بهدف تسليط الضوء، عبر تغطية صحفية جادة، على الأوضاع السائدة في البلاد التي تشهد حرباً منذ عامين. لنقف مع السودان
sudantribune.net