بينما يحتفي العالم بالذكاء الاصطناعي: الصحافة السودانية تفقد ذاكرتها في أتون الحرب

منتدى الإعلام السوداني
(مركز الألق للخدمات الصحفية)
الخرطوم 4 مايو 2025 – في الوقت الذي يتجه فيه العالم نحو تبني الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في شتى المجالات، بما في ذلك تطوير العمل الصحفي، تواجه الصحافة السودانية واقعاً مغايراً ومأساوياً. لقد تحولت أرض السودان إلى ساحة حرب طاحنة، لم تكتفِ بتهديد حياة الصحفيين والصحفيات بالقتل والاحتجاز، بل امتدت لتطال وتدمر أرشيفاً صحفياً بُني بالصبر والمثابرة على مدى عقود، مخلفاً وراءه فراغاً هائلاً في الذاكرة الجماعية للبلاد. هذا الأرشيف، الذي يضم رصيداً ثميناً من المصادر والمواد التحريرية، يمثل شاهداً على تاريخ السودان الحديث، ولكنه اليوم يواجه خطر الضياع الأبدي في ظل غياب ثقافة الأرشفة الإلكترونية، سواء على المستوى الشخصي أو المؤسسي.
واقع مرير للصحافة السودانية:
بينما يتطلع الصحفيون والصحفيات حول العالم للاستفادة من الذكاء الاصطناعي، يجد نظراؤهم في السودان أنفسهم في مواجهة مخاطر وجودية. تقارير حقوقية وإعلامية، مثل التقارير الصادرة مؤخرا من نقابة الصحفيين السودانيين ومجموعة “مراسلون بلا حدود” ، تكشف عن حجم الكارثة:
فرار ما يزيد عن ٤٠٠ صحفي وصحفية إلى الدول المجاورة ومقتل ما لا يقل عن 31 صحفي يعمل المجال الإعلامي على يد أطراف النزاع المختلفة واحتجاز ما لا يقل عن ١٧ آخرين بسبب طبيعة عملهم. وظهور ما لا يقل عن عشر وسائل إعلام سودانية مستقلة في المنفى، معظمها مواقع إخبارية إلكترونية تحاول مواصلة العمل في ظروف بالغة الصعوبة.
تدمير الذاكرة المؤسسية:
لم تقتصر آثار الحرب المدمرة على الأفراد، بل طالت أيضاً المؤسسات الصحفية والإعلامية العريقة، ملحقة أضراراً جسيمة بأرشيفاتها التي لا تقدر بثمن. وشمل هذا التدمير الممنهج للذاكرة:
مقرات الصحف: تعرضت للنهب والتخريب، مما أدى إلى فقدان أرشيفات ورقية وإلكترونية.
دار الوثائق القومية: وهي المستودع الرئيسي لذاكرة الدولة السودانية.
أرشيف الإذاعة السودانية: الذي يضم تسجيلاً لتاريخ طويل من البث الإذاعي والإنتاج الثقافي.
يكشف هذا الدمار ليس فقط عن وحشية الحرب، بل أيضاً عن إهمال طويل الأمد لأهمية الأرشفة الرقمية والاستفادة من التقدم التقني لحفظ الوثائق والأرشيفات. هذا الإهمال يهدد بضياع تاريخ تليد، كان يمكن أن يوثق للحاضر ويُبنى عليه للمستقبل.
شهادات حية عن الفقدان:
في هذا التقرير، نستعرض شهادات لصحفيات سودانيات فقدن جزءاً غالياً من ذاكرتهن المهنية والشخصية. بدت عليهن مشاعر الحزن العميق وهن يسردن كيف تدمر جهد سنوات طويلة من العمل والأرشفة والتوثيق في لحظات:
حواء رحمة (صحفية ) : “ما فقده الإعلاميون والصحفيون والصحفيات لا يقدر بثمن. نتحدث عن صحف نادرة، أرشيفات مراكز بحثية، ومواد يصعب استعادتها. كانت الأرشفة قبل الحرب تتم بطريقة تقليدية، مما عرضها لعوامل التلف والإهمال، وجاءت الحرب لتزيد الطين بلة. لقد دُمرت معلومات وأعمال نادرة ذات صلة بمراحل مهمة من تاريخ السودان، بما في ذلك ملفات حساسة حول الفساد والانتهاكات. على المستوى الشخصي، فقدت أرشيفي لأكثر من صحيفة عملت بها، وبذلك فقدت جزءاً كبيراً من تاريخي كصحفية. بما أن الأرشفة لم تكن آمنة والتخريب طال المقرات، أصبح من الصعب استعادة تلك المواد التي عملت عليها لسنوات. أشعر بأنني فقدت جزءاً مني. حتى المعلومات المخزنة في وسائل التواصل الاجتماعي قد تعرض صاحبها للخطر. في رأيي، فقدان هذه المعلومات قد يكون متعمداً، وله صلة بما حدث في عهد حكومة الإنقاذ وتاريخها، ويتصل بعضها بجرائم خطيرة كالفساد، والانتهاكات، وقضية فض الاعتصام.”
أميرة محجوب (صحفية بقسم الأرشفة بمركز الألق) : “أستطيع القول، كصحفية، أنني فقدت أرشيفاً غنياً وثميناً. لقد بذلنا جهداً كبيراً في مركز الألق لتوثيق وأرشفة مواد صحفية وموضوعات وقضايا نُشرت في عدد من الصحف خلال الفترة (٢٠٠٣-٢٠٢٢). كان هذا الأرشيف بمثابة مرجع ثري استفاد منه طلاب العلم والصحفيون. كما عملت بمساعدة فريق على توثيق وأرشفة ٤٣٢٨ قصاصة بتحويلها من ورقية إلى إلكترونية. ضمت المكتبة أيضاً مجلدات نادرة تعكس عصارة العمل الصحفي، منها مجلد لصحيفة “الميدان” العريقة، وآخر خُصص لقضايا ذوي الإعاقة، ومجلد كان قيد الإعداد لـ”أجندة حواء”، الصفحة الشهيرة في صحيفة “الأيام” (٢٠٠٠-٢٠١٦). كل هذه البيانات، التي جُمع بعضها من دار الوثائق وصُنفت في المركز، بالإضافة إلى أوراق عمل تغطي أنشطة المركز منذ تأسيسه عام ٢٠٠٧ حتى ٢٠٢٣، فُقدت بسبب النهب الذي تعرض له المقر بعد اندلاع الحرب. إن ثقافة الأرشفة الإلكترونية غائبة عن سلوكنا الشخصي والمؤسسي.”
سمية المطبعجي (صحفية عملت بصحيفة الأيام وعدد من الصحف) : فقدت بالفعل أرشيفي الصحفي بعد جهد مضنٍ في التصنيف والتبويب لمواد متنوعة امتدت لأكثر من عشرين عاماً. كانت خسارة فادحة لجهد وذاكرة مهنية وتاريخية. فقدان الصحفي لأرشيفه ليس خسارة شخصية فحسب، بل هو خسارة للمجتمع ككل. فالأرشيف احتوى على أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، ومثل رؤى لمختلف شرائح المجتمع في ظروف ومراحل تاريخية متعددة. أعتبره مرجعاً تراكمياً هاماً لحدث أو قضية أو ظاهرة معينة. فقدانه يمثل فقدان ذاكرة متراكمة للأحداث والجهد والتوثيق، الذي يمكن أن يُعين في القراءة والتحليل، أو حتى الاستشهاد به عند التقدم لعمل جديد. الأمر أشبه بفقدان طفل كنت أقوم برعايته ونما بين يديَّ. وهذا يقودنا مباشرة إلى أهمية الأرشفة الإلكترونية التي نفتقدها في سلوكنا على المستوى الخاص والمؤسسي. لا بد من إعادة النظر في ضرورة الاهتمام بالأرشفة الإلكترونية، خاصة بالنسبة للصحف الورقية. كنت قد بدأت بالأرشفة إلكترونياً، ورغم أنها كانت في بداياتها، استطعت الحفاظ على بعض الأعمال.”
مشاعر رمضان حسين (صحفية ومدافعة عن حقوق الإنسان): “أرشيفي الصحفي شكّل وجداني… عملت بصحيفة “الأيام” وتدرجت فيها من محررة ورئيسة قسم إلى سكرتيرة تحرير. قبل ذلك، عملت كمتعاونة مع عدد من الصحف خلال دراستي الجامعية. منحتني هذه التجارب خبرة عملية تقارب عشرة أعوام في الصحافة الورقية، فضلاً عن عملي بمواقع إلكترونية وإضافةً لعملي بالمجتمع المدني بمركزي “الأيام” و”الألق” للخدمات الصحفية. هذه الخبرة أضافت لرصيدي المهني والعملي، وكونت لي رصيداً من المصادر والجهات كمرجعية، وتشكل لدي أرشيف موثق من المواد الصحفية والأوراق العلمية وبعض البحوث والكتابات الذاتية. بطبيعة عملي في سكرتارية تحرير “الأيام”، كان لدي أرشيف خاص بمواد إعداد الصحيفة، بعضه مكتوب بخط اليد لقامات صحفية وأدبية، على رأسهم الأستاذ محجوب محمد صالح والأستاذ السر مكي، على سبيل المثال لا الحصر. بالإضافة إلى مخططات التحرير اليومية، وأجندات العمل، وتبويب الصحيفة، ونماذج لتصميم الصفحات. بجانب ذلك، كان لدي أرشيف آخر إلكتروني على جهاز الكمبيوتر المنزلي يحتوي على مواد تحريرية ومقالات ومراسلات للقراء وأصدقاء “الأيام”. كانت هذه السنوات جزءاً عضوياً أصيلاً من حياتي، شكلت وجداني وذاكرة عملي الصحفي. هي تفاصيل حياتي اليومية، كزرع غرسته وأعمل بجهد لحمايته من عوامل الطقس ومن أيادي الآخرين، خوفاً عليه من التخريب وموت تلك الشجيرات التي غرستها بجهد وصبر دؤوب. الإحساس المفرط بالأمان جعلني أحفظ هذا الأرشيف بشقيه الإلكتروني والورقي في منزلنا، كمقتنيات وكنز ثمين. كل قصاصة ورق لها حكاية، حتى بعض الأحرف المكتوبة على عجل كانت تذكرني بأيام العمل الضاغط واللحظات الصعبة. جاءت الحرب، واقتلعت الإحساس بالأمان، هزمت كل قيمة ثابتة، وزحزحت ذلك الغرس الثمين وجعلته هيناً مقابل سلامة الأرواح. إذ فررنا إلى أرض أخرى، ويبقى في ذاكرة الرأس -غير المأمونة مع مرور الأيام والسنوات- أن هناك، على تلك الأرض المحروقة، يوجد أرشيف أُنشئ بالصبر والجلد؛ رصيد من المصادر والمواد التحريرية والدراسات، وأوراق الفعاليات والورش والبحوث. هناك نسخة من صحيفة بها أول خبر نُشر لي، هناك فرحة وتوثيق في هذا الأرشيف، هناك أول تقرير كتبته، وأول تحقيق، وأول حوار أجريته، وأول صفحة أعددتها. هناك أجندة حمراء بها محاضر اجتماعات التحرير، وفيها إشادة بخط مدير التحرير بتغطية خبرية قمت بها يوم الجمعة. هناك الكثير: مسجل الصوت، كاميرا هاتفي، جهاز التصميم، وهاتف آخر به أرقام هواتف كل المصادر الذين تعاملت معهم. في تلك الأرض المحروقة بفعل الحرب، تركنا خلفنا الكثير… فهل يصمد؟ وهل ستكون العودة ميسرة حتى نعيد بعض ما فقدنا؟ لا أعتقد أنه من الممكن استرداد جزء كبير من الأرشيف الورقي؛ فهي وإن لم يطالها عنف الحرب، لن تسلم من العوامل المناخية والقوارض. أعمل الآن على استعادة جزء من شبكة مصادري وبعض كتاب صحيفة “الأيام” وقرائها، بذاكرة جديدة ومن أرض مختلفة، إلى حين العودة والنبش والبحث عن عمرٍ صحفي دمرته الحرب.”
أمينة النور (مخرجة بالإذاعة ونائبة رئيس قسم الدراما) : “كتاب تحت الطبع ونصوص درامية تحكي مسيرتي العملية… الإذاعة القومية بأم درمان كانت من أوائل المؤسسات التي تعرضت للاحتلال الكامل من قبل قوات الدعم السريع، بحكم تواجدهم السابق في حراستها. هذه المؤسسة العريقة بما فيها من مكتبة ثمينة تعرضت للضياع. لقد فقدت مكتبتي الشخصية التي كانت تحتوي على دراسات وأوراق بحثية وكتابات نقدية وروايات، وكانت معيناً لي في عملي بمجالات مرتبطة بالإعلام والدراما الإذاعية. وأيضاً، فقدت كتاباً تحت الطبع عن الدراما الإذاعية كان في إحدى المطابع التي احترقت تماماً. بالإضافة إلى أرشيف يحوي تحليلات لنصوص درامية، ما أُنتج منها وما كان قيد الإنتاج. ناهيك عن الأعمال المختلفة التي عملت على إنتاجها خلال مسيرتي كمخرجة بالإذاعة، من برامج وسهرات درامية ومسلسلات، كانت محفوظة في سيرفرات الإذاعة التي لا نعلم مصيرها.”
تُظهر هذه الشهادات حجم الفاجعة التي حلت بالصحافة السودانية وذاكرتها. إن فقدان هذه الأرشيفات لا يمثل خسارة للصحفيين وأصحابها فقط، بل هو خسارة للسودان بأكمله، خسارة لجزء حيوي من تاريخه وهويته. وتؤكد هذه المأساة على الضرورة الملحة لتبني ثقافة الأرشفة الرقمية وحماية الذاكرة الجماعية للأمم، خاصة في أوقات النزاعات والأزمات. فهل يمكن استدراك ما فات والبدء ببناء أرشيف رقمي يصمد أمام التحديات ويحفظ للأجيال القادمة إرثها وتاريخها؟
هذا التقرير الصحفي من إعداد مركز الألق للخدمات الصحفية ، وقد تم نشره عبر مؤسسات منتدى الإعلام السوداني بمناسبة اليوم العالمي للصحافة لتسليط الضوء على اوضاع الصحافة والصحفيين في السودان. لنقف مع السودان#
sudantribune.net