صراع الشريعة الإسلامية في السياسة السودانية

لولا أنّ الخصومة غير الراشدة، والتدخلات الخارجية الخبيثة، هي التي تتحكم في السياسة السودانية، لكان دستور عام 2005، الذي تم التوافق عليه بين القوى الوطنية، يصلح أن يكون أساسًا صالحًا لتأسيس وحدة نموذجية بين الشمال ذي الأغلبية المسلمة والثقافة العربية، وبين الجنوب ذي الثقافة الأفريقية الغالبة والديانات المتعددة.
ولكان إجابة منطقية لكل الجدل الذي استطال عن علاقة الدين بالدولة، فقامت بسبب ذلك الحروب والمعارك، وتعمقت به الانقسامات، وتفرقت المسالك.
لقد احتوى ذلك الدستور جماع الحكمة التاريخية الوطنية، باستيعابه حساسية التعايش في دولة حديثة متعددة الديانات والأعراق، وتحيط بها التحديات من كل جانب، وبلغ النضج الفكري للتيارات السياسية في محتوى تلك الوثيقة الراقية مبلغ الرشد الذي يبحث عن المشتركات، ويجافي أسباب الخلاف والاختلاف.
جاءت المادة الأولى للدستور لتؤكد على أن السودان دولة ديمقراطية تتعدد فيها الثقافات واللغات، وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان. وتحاشى الدستور ذكر دين الدولة الرسمي، وفي الوقت نفسه ساوى بين مصادر التشريع: (الشريعة والإجماع والقيم لشمال السودان، والأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية لجنوبه).
إعلانوبخصوص الحقوق والواجبات، فقد ثبت النص أن المواطنة المتساوية هي المعيار لهما، وأن جميع لغات السودان لغات قومية يجب احترامها وتطويرها.
ذلك ما كان من أمر النصوص، أما الممارسة، فلم تخرج عما ألفته النخبة السودانية من خوض المعارك الخاسرة، والخلط بين ما هو تكتيكي وما هو إستراتيجي، من أجل تسجيل النقاط في شباك الخصوم، وحيازة الانتصارات الصغيرة.
ظلت قضية الشريعة الإسلامية في صدارة القضايا الوطنية التي شهدت التجاذب والخلاف، ومع أهمية أطروحة علاقة الدين بالدولة، إلا أن المقاربة التي اعتمدتها النخبة المنقسمة عمّقت حدّة الصراع حول الموضوع، وأثّرت على المطلوبات الوطنية لبناء دولة الرفاه والاستقرار بعد الاستقلال.
وقد تداخلت عوامل متعددة قادت إلى هذه النتائج، منها قصور الرؤية التي طُرحت من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، خاصةً مع تحدي الدولة الحديثة التي شادها الاستعمار، والدور المحوري الذي قام به المستعمر نفسه بتخريجه أجيالًا ممن اطمأنّ إلى أنهم سيحملون رايته ويدافعون عنها بعد خروجه.
إلى جانب تأثير الصراع السياسي الحاد، الذي حوّلها من مشروع كان ينبغي أن يكون ثابتًا من ثوابت البناء الوطني، إلى مجرد مشروع للتنافس السياسي، تختلف حوله القوى السياسية اختلافًا بيّنًا.
تصلح المملكة السنارية في إعطائنا نموذجًا عمليًا لتطبيق الشريعة وفقًا لمفهومها التاريخي في تجارب المسلمين، وذلك باعتبارها نموذجًا حياتيًا نابعًا من ثقافة المجتمع ومُعبّرًا عن تكوينه التلقائي.
وبما أن المملكة قامت أساسًا على مرجعية الإسلام، وطوّرت لاحقًا معارفها العلمية والعرفانية في إطاره، فإنها كانت تطبّق الشريعة بتعريفها المقاصدي الرحيب، الذي يشمل الأخلاق والعادات والمعاملات والعقائد والعبادات، أو كما عرّفها ابن تيمية:
«والصواب أن الشريعة جامعة لكل عمل فيه صلاح الدين والدنيا، وهو كتاب الله وسنّة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والعبادات والأصول والأعمال والسياسات والأحكام والعطايا.»
إعلانوبجانب كل هذا المدى المفتوح من المباحات، أضافت المملكة السنارية بُعدًا عرفانيًا في ثقافة المجتمع، قامت دعائمه على الطرق الصوفية.
لقد كانت الشريعة الغرّاء هي التعبير الطبيعي للمجتمعات في ممالك السودان الوسيط: سنار، وتقلي، والمسبعات، ودارفور.
وعلى الرغم من العزلة الجغرافية للسودان عن مراكز العالم الإسلامي الحضارية، وحداثة الإسلام فيه، فإن الحركة العلمية سرعان ما انتظمت تلك المجتمعات.
ففي مملكة سنار (كبرى هذه الممالك)، انفتح ملوكها على تعميق العلم الشرعي، ودعوة العلماء والفقهاء إلى الدولة الوليدة، وكان ظهور شخصيات كـغلام الله بن عائد، وأولاد جابر، ومحمود العركي، علامة مهمة في نشر الثقافة الإسلامية.
ثم جاءت الطرق الصوفية، ابتداءً من زيارة تاج الدين البهاري، والشيخ حمد أبو دنانة، وآخرين، في نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وهو الأمر الذي جعل دعائم الإسلام تقوم على ساقَي الشريعة والحقيقة.
وفي مجال القضاء، تم إنشاء المحكمة الكبرى بسنار، والمحاكم الصغرى في أطرافها المختلفة.
وبجانب هذه المحاكم، كان هناك (قضاة الشريعة البيضاء)، وهم علماء متخصصون في الشريعة، يقومون بالفصل في الخصومات في البوادي والقرى بالشريعة فقط.
كما أن (قضاء الأجاويد) كان منتشرًا في ذلك الوقت، وهو أشبه بالتحكيم في زماننا.
ويقول محمد حسن المفتي في مؤلفه القيّم "تطور نظام القضاء في السودان":
"إن القضاة جميعهم من الرجال الصالحين، وكان كل منهم عالمًا عاملًا، عادلًا، ورِعًا، تقيًا، وشيخًا إسلاميًا، آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر، وقد اشتهر كل منهم بين قومه بالمروءة والوفاء بالعهد."
وما جعل الشريعة نظامًا للمجتمع والقضاء، هو أنها نشأت مستقلة عن سلطان الدولة، وكانت تعبيرًا طبيعيًا عن تلك المجتمعات التي اعتنقت الإسلام، فقام نظام حياتها وفقًا لشروطه.
إعلانكما أنهم عرفوا يقينًا أن:
"الشريعة لم تأتِ لتعيد تصميم النظام الاجتماعي – وهو ما فعلته الدولة الحديثة – بل أتت لتوجّهه على وفق ما يمكن أن يُسمّى العُرف والمَعروف، وكان هدفها إقامة العدل وإيجاد التناغم الاجتماعي اللذَين يُفضيان إلى تمكين البنى الاجتماعية من أداء مهماتها بسلاسة."
وهذا المعنى، الذي يؤكده وائل حلاق، كان حاضرًا في الوعي الاجتماعي والسلطاني في ممالك السودان القديمة، التي استمدّت روح تشريعها من مفاهيم الشريعة المستقرة في المعرفة الإسلامية وتجاربها في مجتمعات المسلمين.
ولذلك، لم تُحصر الشريعة في مجال القوانين فقط، وإنما جرى التعامل بها تلقائيًا في مجالات المعاملات والعقائد والقوانين.
ولعل تأثّر تلك الممالك بمذهب الإمام مالك، الذي يعظّم المقاصد والاستحسان وجلب المصالح وسد الذرائع – وخاصة في العقوبات والبيوع – قد يسّر للحكام والقضاة تمثّل الشريعة في الحياة العامة وفي القضاء.
ويُعزى تقبّل الشريعة من العامة ونجاحها في ذلك الوقت إلى أنها – أي الشريعة – لم تكن مجرّد نظام قضائي أو مذهب فقهي تنحصر وظيفته في تنظيم العلاقات الاجتماعية وتسوية النزاعات بين الناس، وإنما كانت ممارسة خطابية، ربطت نفسها بنيويًا وعضويًا بالعالم من حولها، وأنها نمت وترعرعت في قلب النظام الاجتماعي الذي أتت لتخدمه.
(وائل حلاق – ما هي الشريعة؟)
الشريعة كأيديولوجيا
بدأت أولى بوادر الخلاف والانقسام حول الشريعة في عهد الدولة المهدية، فقد ابتدأ المهدي دعوته بإلغاء المذاهب الإسلامية، وأضاف أصلًا جديدًا إلى أصول التشريع المستقرة عند المسلمين، وهو التشريع عن طريق: (الإلهام، والكشف، والهواتف، والحضرات).
فصارت مصادر التشريع هي: القرآن، والسنة، ومنشورات المهدي. وبذلك آلت رئاسة القضاء العليا إلى الإمام المهدي، على عكس ما كان عليه الأمر من استقلالية الشريعة كمنظومة مجتمعية، واستقلال القضاة والمحاكم في المملكة السنارية.
إعلانويُعتبر منشور قواعد الأحكام الصادر عن الإمام المهدي نموذجًا جيدًا لعقلية التشريع التي سادت خلال تلك الفترة وباستخدام المهدي وخليفته من بعده اجتهادهما القائم على المنشورات كمصدر ثالث للتشريع، بدأت عقيدة المهدية تظهر بوجهها الأبرز، مكوّنة ثقافة جديدة في سيرورة تطبيق الشريعة في السودان، وهي الثقافة القائمة على استيلاد أيديولوجيا محددة، أو فلنقل: نسق فكري خاص يقوم على فهم مخصوص للشريعة، يستمد حجّيته من تفسير المهدي ومن بعده خليفته للنصوص القرآنية والحديثية.
إذ بإسقاطهما إرث المسلمين الفقهي، الذي بُنيت قواعده عبر مسيرة طويلة من الاجتهاد، والذي ولد إطارًا فضفاضًا أعطى الشريعة استقلاليتها وحيويتها في مجتمعات المسلمين، فإنهما أسّسا لخلاف عميق في البنية الإسلامية، كانت نتيجته انفصال طبقة العلماء، التي نمت طوال عهد الحكم التركي المصري في السودان، عن المهدية.
بل وقادت هذه الطبقة ثورة تفسيرية مضادة، ترتكز إلى الفقه التقليدي المعروف بين جماهير المسلمين، لتحارب المهدية برؤية مضادة من داخل الدين الإسلامي.
ورغم هذه المعركة الحادة، ظل الخلاف بين الفريقين محصورًا حول الطريقة المثلى لتطبيق الشريعة الإسلامية.
كيف نشأ الصراع على الشريعة
أحدث المستعمر الإنجليزي انقلابًا حقيقيًا في المجتمع السوداني، وذلك بهدمه بنيان الشريعة الذي ظل يحكم السودان قرونًا متطاولة.
وكعادة الاستعمار، كان الإنجليز يعتقدون أن الشريعة لا تصلح لإدارة الدولة الحديثة، بل إن المجتمعات التي جاؤوا إليها مجتمعات غارقة في الظلام، حسبما لخّص القس سبنسر تريمنجهام في كتابه "الإسلام في السودان":
"كان موقف البريطانيين منذ البداية اعتبار السودان شعبًا مستغَلًا متخلفًا."
ولذلك ابتدأ البريطانيون بتشريع قوانين حديثة جلبوها من الهند وبريطانيا، شيدوا بها نظامًا قضائيًا حديثًا.
لكنهم كانوا من المكر والدهاء بحيث لم يرغبوا في استفزاز المسلمين، فأقاموا نظامًا آخر موازيًا، لكنه أقل أهمية واهتمامًا، وأوكلوا إليه مهمة القضاء الشرعي للنظر في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين.
وهكذا نجح المستعمر في ترسيخ فكرة الثنائية في القضاء، وفي بذر النظرة الاحتقارية لكل ما مثّلته الشريعة من نظام ومصادر للتشريع.
بدأت معركة تطبيق الشريعة مباشرة بعد خروج المستعمر، بين نخبةٍ تشربت مبادئ القانون الغربي ونُظمه الأخلاقية، وبين طائفة إسلامية كانت ناشئة، تستشعر في نفسها ضعف البدايات، فلجأت إلى تحالف تتناصر به في مواجهة البيئة المتغرّبة، المتقوية بأجهزة الدولة وسلطانها.
وكان أهم ما ميّز الصف الإسلامي ميزتان ستكونان لاحقًا مجال الصراع حول الشريعة مع القوى العلمانية:
الميزة الأولى: اعتماد التيار المركزي عند الإسلاميين بشكل كلي على الدولة لإحداث التغيير الاجتماعي، وأن نظريته للإصلاح تقوم على التمكّن من السلطان السياسي، ومن ثمّ فرض الإصلاح من أعلى، بالتي هي أحسن أو حتى بالتي "هي أخشن" إن توفرت الفرصة لذلك.
وقد استند بعضهم في تبرير هذه الرؤية إلى أثرٍ ورد عن سيدنا عثمان بن عفّان وشاع عندهم على أنه حديث نبوي، وهو:
"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن."
وعلى كلٍّ، فقد استشعرت النخبة العلمانية خطورة هذه الفئة، التي تريد منازلتها فيما تعتبره عقر دارها، وهو:
"تمثال الدولة الحديثة الموروثة من الإنجليز."
الميزة الثانية هي حصر المنازلة مع القوى العلمانية حول أطروحة الدستور الإسلامي والقوانين، أو فلنقل: حصر الشريعة في جانبها التشريعي؛ حيث تم توظيفها شعارًا لإحراج القوى السياسية، وخاصة تلك المستندة إلى طائفتي الختمية والأنصار بمرجعياتهم الإسلامية، ومناجزة الحزب الشيوعي الذي كان في قمة عنفوانه في ذلك الوقت.
وطوال الفترة التي أعقبت الاستقلال وحتى قيام ثورة مايو/ أيار في العام 1969، لم تكن الأطروحة واضحة عند الإسلاميين. ويؤكّد استعانتهم بسكرتير أبي الأعلى المودودي، ظفر الله الأنصاري، لوضع مسوّدة الدستور، أن الرؤية حول الشريعة لم تتبلور بعد.
إعلانعلى أن ذلك لم يكن سببًا عند الترابي لتأجيل المطالبة بتطبيق الشريعة، إذ يقول:
"ولا يصح تأخير نزول الحق حتى تتوافر كل المباحث العلمية التي تجليه، وتتهيأ من نفسها تصاريف الظروف، بل هدي الدين أن يُسارع إلى الحق ما بانت وجهته العامة، وإلى الخير ما ارتسمت معالمه الأساسية."
نواصل في الحلقة القادمة بحث تطورات الصراع حول الشريعة، وكيف تحوّل النزاع إلى صراع سياسي حاد، وُظّفت فيه الشريعة وقودًا، بينما كان التطور السياسي قد حسم وجهة البلاد منذ أن نصّ دستور العام 1973 على أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع في السودان، وبعد توقيع الدكتور الترابي – وزير العدل حينها – على تقرير لجنة مراجعة القوانين في العام 1978، والتي وجدت أن 10% فقط من جملة 286 قانونًا راجعتها اللجنة، كانت بحاجة لتعديل بعض موادها لتتسق مع الشريعة الإسلامية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aljazeera.net