رواية إعدام جوزيف: مرآة لأزمات السودان ومادة لسجال لا ينتهي 3

سجال ودّي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف“ مرآة لأزمات السودان ومادة لسجال لا ينتهي
بقلم: الصادق علي حسن
دولة الأمير
: حتى بعد أن تطورت المعرفة ووسائل البحث العلمي والتقني، وصارت المعلومات مبذولة للجميع ويمكن الحصول عليها والتدقيق فيها، ولا يحتاج ذلك إلى كثيرٍ من الجهد، فهي متوافرة في الجوال الذي يحمله الشخص العادي في حلّه وترحاله؛ ولكن لا تزال المشافهة هي التي تشكل أساس المعرفة لدى غالبية السودانيين. وقد لعب المؤرخ السوداني الدور الأكبر في تغبيش الوعي الجمعي للأجيال السودانية المتعاقبة، وذلك بإيراد معلومات تفتقر إلى الدقة والصحة، كما أرّخ في المناهج الدراسية، ومن ذلك على سبيل المثال ما يتعلق بالدولة السودانية وتأسيسها. إن الدولة السودانية المحمية بالقانون الدولي، والمعبرة عن هوية الشعوب السودانية المتواجدة على الأراضي السودانية، أسسها إسماعيل باشا بن محمد علي باشا، الوالي العثماني على ولاية مصر، في عام ١٨٢١م بضمها لولاية مصر العثمانية. والصحيح أنه لم تكن هناك دولة تُدار كوحدة سياسية واحدة آنذاك في الأراضي السودانية، بل كانت هناك حضارات إنسانية وممالك ضاربة في القدم في أرض كوش، وممالك المقرّة وسوبا، كما نشأت ممالك الداجو والتنْجُر والفونج ودارفور ودار مساليت وتقلي. وفي جنوب السودان والشرق، وُجدت الهويات التي تأسست في ظل تلك العهود، وكانت تمثل هويات الشعوب التي تواجدت على الأرض وقتذاك، وكلها تقع ضمن الإقليم الجغرافي الواسع الذي يُطلق عليه “الأراضي السودانية” في تلك الحقبة من التاريخ البشري. وكان الولاء للملك أو السلطان أو الأمير، وهو الذي يحدد الهوية ويمنحها، كما يُقنن حق الانتفاع بالأرض. إن الدولة الحديثة نفسها قد تم تقنينها عبر الاعتراف المتبادل بشخصيتها القانونية الدولية المستقلة وسيادتها التامة على إقليمها الجغرافي البري والبحري والجوي بموجب صلح وستفاليا عام ١٦٤٨م، حينما رفضت دول أوروبا تقسيم العالم خارج أوروبا بين البرتغال وإسبانيا، والذي تم باتفاق بين المملكتين في معاهدة تورديسيلاس عام ١٤٩٤م برعاية البابا، عقب عودة كولومبوس مكتشف الأراضي الجديدة ورسوه بسفينته قبالة سواحل البرتغال، وتمسُّك ملك البرتغال بأحقيته في الأراضي المكتشفة باعتباره أنه أول من علم بالاكتشاف.
المواطنة ودولة الأمير:
لقد كانت المواطنة في أوروبا تتمثل في الانتماء للأمير والتبعية للأسر الوطنية الحاكمة في أوروبا بالوصاية ودون تفويض انتخابي. وكان المواطنون رعايا الأسر الحاكمة، المشمولين بحمايتهم ورعايتهم. وكان التفاني في خدمة الأمير الراعي لرعيته يمثل قمة الولاء للدولة. وفي كتابه “الأمير” (أو “باسم الأمير”)، كتب “كاتب الدولة” نيكولو مكيافيلي عن مدى ولائه للأمير، وتدبيره للمجهود الحربي في مواجهة الأسر الطامعة في إمارة الأمير بالقدر القليل من المؤن، بما يكفي طعام حصانه، وبأقل من الراتب الذي يقضي به احتياجاته. وكان حرصه منصبًا على التفاني في خدمة الأمير (من آل ميديشي) في مواجهة الأعداء من الأسر المتربصة بالأمير والإمارة. والغاية عنده كانت حماية الأمير والإمارة والدفاع عنهما بكافة الوسائل. وقدّم مكيافيلي أروع دروس التفاني في حماية الأوطان ممثلةً في الأمير، ولم يكن، كما صوره خصوم آل ميديشي من الأسر الأخرى، انتهازيًا. إن الاعتماد على المشافهة والحكي دون التقصي والتحقيق في الوقائع، خاصةً في الوقائع التاريخية والقضايا العامة، لن يخدم الحقيقة في شيء، ولا المصلحة العامة، بل يُنشئ أجيالاً متعاقبة لا تتصالح مع ذواتها.
قواعد تأسيس الدولة السودانية:
إن التقرير بشأن مصير الأراضي الخاضعة لدولتي الحكم الثنائي كان يتطلب أولاً ممارسة الحكم وتكوين إدارة حكم ذاتي. وقد تم تأسيس ذلك الحكم والإدارة الذاتية بانتخاب البرلمان الأول في نوفمبر ١٩٥٣م. ومن يقرأ تاريخ السودان وإعلان استقلاله، يجد أن السودانيين قرروا مصير البلاد بإرادتهم الحرة، ولم يكن الاستقلال، كما يصوره البعض، قد تم بمقترح قدمه أحد النواب (الشيخ بابكر دبكة، نائب دائرة بقارة غرب بجنوب دارفور) وثنّاه النائب مشاور جمعة سهل (نائب كردفان، دار حامد غرب)، بل كان فصلاً من فصول ممارسة الحكم الذاتي. وفي القانون المنشئ للحكم الذاتي والتدريب على ممارسة الحكم، احتفظ الحاكم العام بحق تعيين اثنين من جنوب السودان ضمن طاقم الحكم الذاتي. هناك من يسعى لتغييب الحقائق وتحويل حتى الأخطاء الفادحة في ممارسة الحكم إلى إنجازات. وفي المشافهة، يُروى أن الزعيم الأزهري حينما شارك في مؤتمر عدم الانحياز بباندونغ عام ١٩٥٥م، وكان أمام ممثلي الدول المشاركة أعلام بلدانهم، وحينما سُئل عن علم بلاده، أخرج منديله من جيبه ووضعه أمامه كسائر ممثلي الدول الأخرى، مما وجد الاستحسان. ولا يُدرك المحتفون بمثل هذه الروايات أن أعلام الدول تعبر عن رمزية لشعب الدولة، وليست مجرد قطع قماش توضع على المناضد في لقاءات واجتماعات رؤساء الدول.
لو تمعّن د. ضيو مطوك في قواعد تأسيس الدولة السودانية، لوجد أن قواعد التأسيس وُضعت حتى يتسنى لدولة بحجم قارة، مثل الأراضي السودانية، الانتقالُ من مرحلة الاستعمار إلى إدارة مدنية ديمقراطية نابعة من شعوب الدولة نفسها. وهذه من التجارب التي لم يستفد منها السودانيون الذين ورثوا دولة كان المستثمر الأجنبي يدخل إليها بشهادة مقدرة مالية، والجنيه السوداني يعادل ما يقارب أربعة دولارات، وخدمة مدنية هي الأكثر كفاءة في أفريقيا، ومؤسسات تعليمية عريقة مثل جامعة الخرطوم. حتى الأندية الاجتماعية والثقافية أسسها المستعمر الإنجليزي في مايو ١٩١٨م لتمكين الخريجين الذين تخرجوا في المدارس من ممارسة الحياة الثقافية والاجتماعية الحديثة. ونتيجة للتطور في أوساط الخريجين السودانيين، في عام ١٩٣٧م، ومن مدينة ود مدني، وكان من رواد متعلميها الأستاذ أحمد خير المحامي، كتب محمد خير (أو أحمد محمد خير إذا كان هو المقصود) مقالات صحفية دعا فيها لقيام مؤتمرات للخريجين السودانيين على غرار مؤتمرات الهند.
إن عدم قراءة قواعد التأسيس قراءة صحيحة هو ما جعل قوات الدعم السريع ترفع شعار إنهاء دولة ١٩٥٦م، وهي لا تدرك مآلات هذا الإنهاء، شأنها في ذلك شأن الذين يتحدثون عن مشروعات تأسيس دولة سودانية هي قائمة بالفعل وهم يحملون وثائق مواطنتها، ويتقاتلون من أجل إنهائها ولا يدركون العواقب المتمثلة في إدخال البلاد مرحلة الفوضى الشاملة.
حزب الأمة وانفصال جنوب السودان:
في مقاله الرابع، وفي سياق سجاله مع نقاد كتابه، كتب د. ضيو مطوك عن مسؤولية حزب الأمة والصادق المهدي في تأزيم الأوضاع بجنوب السودان، ورفضه تبرئة الحزب ورئيسه الإمام الصادق المهدي من مأساة جنوب السودان ومسؤولية دفعهم للانفصال عن السودان. أنا هنا لست معنياً بالرد نيابة عن حزب الأمة أو مؤسساته أو عضويته، ولكنني أتناول وقائع مرتبطة بالممارسة السياسية العامة بالبلاد، وهذا الحق مكفول لكل باحث أو مهتم.
مذبحة الضعين، مارس ١٩٨٧م:
لا أحد يستطيع أن ينكر مدى بشاعة مجزرة الضعين التي حدثت في مارس ١٩٨٧م. ولكن، ما الرابط الذي يجمع بين المجزرة وحزب الأمة ورئيسه الصادق المهدي، بل وجميع منسوبي الرزيقات؟ فالمجزرة البشعة وقعت في نطاق جغرافي محدد وفي منطقة الضعين. كما أنه في منطقة الضعين، لم يشترك كل أبناء الرزيقات في المجزرة، وبالتالي فإن المسؤولية عنها تقع في نطاق مرتكبيها. لو بحث د. ضيو مطوك عن الوقائع في سياق الأوضاع القائمة وقتذاك، لوقف على توترات حدثت جراء قيام الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة د. جون قرنق بدخول منطقة “سفاهة” بجنوب دارفور، وهي من مناطق تواجد المنتسبين لقبيلة الرزيقات، وسقط أفراد من قبيلة الرزيقات جراء الاقتتال. وهناك بعض الذين قاموا برصد تلك الأحداث وأرجعوا ما حدث في الضعين من مجزرة بشعة إلى الثأر القبلي. ولكن يظل ما حدث من قتلٍ جزافيّ (وهو مرفوضٌ رفضاً باتاً ومُدانٌ) أياً كانت دوافعه. كما لا يجوز التبرير بوقوع أحداث قتل في منطقة ما للقيام بمجزرة انتقامية في مكان آخر لأي سبب من الأسباب، وأخذ القانون باليد، والانتقام ممن لا صلة لهم بالأحداث.
في أغسطس ١٩٨٦م، أسقطت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان طائرة مدنية تابعة للخطوط الجوية السودانية من طراز “فوكر”، كانت تقل ٦٠ راكباً في رحلة من ملكال إلى الخرطوم، وقُتل جميع ركابها، وأعلنت الحركة الشعبية مسؤوليتها عن الحادث. وفي مايو ١٩٨٧م، أُسقطت طائرة مدنية أخرى. إن حزب الأمة والصادق المهدي لم يُعلنا عن مسؤوليتهما عن مجزرة الضعين، وقد فُتحت بلاغات جنائية لملاحقة المتورطين في المجزرة، وهم أفراد من منسوبي الرزيقات، وليس كل قبيلة الرزيقات. لذلك، من الضروري النظر إلى مثل هذه الوقائع في سياقها الصحيح، وليس على شاكلة الإدانات المسبقة دون مرجعية تقصٍ أو تحقيق.
هل كان لحزب الأمة علاقة بالمراحيل والتسليح القبلي، وهل يتحمل مسؤولية تأسيس المليشيات القبلية بمثل ما حدث في عهد الإنقاذ؟ هذا ما سنتناوله في مقالنا القادم.
sudantribune.net