الحرب العالمية الثانية.. الصراع الدموي الذي يشكل العالم إلى اليوم

مقدمة الترجمة
يقدم المؤرخ العسكري البريطاني أنتوني بيفور نظرية لتفسير الصراعات الآنية من خلال الحرب العالمية الثانية، التي يرى أن أصداءها تشكل السياسات العالمية إلى اليوم.
ويرى بيفور، في مقاله المنشور بمجلة "فورين أفيرز"، أن جميع القوى/الدول الفاعلة في الحرب تقريبا تقدم روايتها الخاصة حولها، وأن بمقدور تلك الرواية أن تفسر السياسات الراهنة لتلك القوة/الدولة في عالم اليوم. يشمل ذلك الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وحتى الصين التي ورثت مقعد الإمبراطورية اليابانية في أعقاب الحرب.
يركز بيفور بشكل كبير على روسيا، وهو يقرأ أفكار بوتين وسياساته اليوم باعتبارها إرثا وامتدادا لأفكار وسياسات ستالين، خاصة في الفضاء الجيوسياسي. ولا يخف المؤرخ البريطاني بطبيعة الحال تحيزه إلى الرواية الغربية، لدرجة أنه يبرر إلقاء الولايات المتحدة القنبلة الذرية فوق ناغازاكي وهيروشيما على أنه قرار ينطوي على "موازنة أخلاقية صعبة"، زاعما أنه أنقذ أعدادا كبيرة من البشر، أضعاف أولئك الذين قتلتهم القنابل الأميركية.
نص الترجمة
نادرا ما يكون التاريخ مرتبا أو منظما، حيث تتداخل العصور وتستطيل الأعمال غير المكتملة من حقبة إلى أخرى. كانت الحرب العالمية الثانية حربًا لا مثيل لها من حيث حجم تأثيرها على حياة الناس ومصائر الأمم، وكانت في الوقت نفسه مزيجا من الصراعات التي صنعتها الضغائن العرقية والوطنية التي أعقبت انهيار 4 إمبراطوريات وإعادة رسم الحدود في مؤتمر باريس للسلام بعد الحرب العالمية الأولى.
إعلانوقد ذهب العديد من المؤرخين إلى أن الحرب العالمية الثانية (بحدودها الزمنية التي نعرفها اليوم بين عامي 1939 و1945) كانت مجرد جزء من حرب طويلة ممتدة منذ عام 1914 (تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى) حتى عام 1945، أو ربما حتى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.. حرب أهلية عالمية نشبت أولا بين الرأسمالية والشيوعية، ثم بين الديمقراطية والدكتاتورية.
لا شك أن الحرب العالمية الثانية جمعت خيوط تاريخ العالم معا، بفضل نطاقها المتسع جغرافيا والدور الذي لعبته في تسريع نهاية حقبة الاستعمار في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. ولكن رغم تقاسم معظم الدول لهذه التجربة ودخولها في ذات النظام الذي بُني في أعقابها، فإن كل دولة مُشارِكة في النظام خلقت روايتها الخاصة لذلك الصراع الكبير وتمسكت بها حتى النهاية.
وحتى مسألة بسيطة نظريا مثل: متى بدأت الحرب؟ لا تزال موضع جدل، ففي الرواية الأميركية مثلا، بدأت الحرب تأخذ مسارا جديا فقط عندما دخلت الولايات المتحدة على خط الصراع في أعقاب الهجوم الياباني على بيرل هاربور يوم 7 ديسمبر/كانون الأول 1941، وبعد إعلان "الدكتاتور" الألماني أدولف هتلر الحرب على واشنطن بعد ذلك ببضعة أيام.
من جانبه، يصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن الحرب بدأت في يونيو/حزيران 1941، عندما غزا هتلر الاتحاد السوفياتي، متجاهلاً الغزو السوفياتي والنازي المشترك لبولندا في سبتمبر/أيلول 1939، والذي يمثل بداية الحرب بالنسبة لمعظم الأوروبيين.
وهناك من يُرجعون بدايات الحرب إلى تواريخ أبعد من ذلك، فبالنسبة للصين، بدأ الأمر عام 1937، مع اندلاع الحرب الصينية اليابانية، أو ربما قبل ذلك مع الاحتلال الياباني لإقليم منشوريا (التابع للصين) في عام 1931. هذا ويعتقد كثيرون من اليساريين في إسبانيا أن الأمر بدأ في عام 1936 مع إطاحة الجنرال فرانكو بالجمهورية، مما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية.
إعلانتشكل هذه الرؤى العالمية المتضاربة مصدرا للتوتر وعدم الاستقرار في السياسة العالمية. ينتقي الرئيس الروسي بوتين من التاريخ الروسي ما يناسبه، فيجمع بين تكريم التضحيات السوفياتية في "الحرب الوطنية العظمى"، كما تُعرف الحرب العالمية الثانية في روسيا، وبين الأفكار "الرجعية" للروس البيض القيصريين المنفيين بعد هزيمتهم على يد الشيوعيين الحمر في الحرب الأهلية الروسية خلال الفترة 1917- 1922.
هذه الأفكار "القيصرية" تقدم مبررات دينية للهيمنة الروسية على كامل الكتلة الأوراسية، "من فلاديفوستوك (في أقصى الشرق الروسي) إلى دبلن (إيرلندا في أقصى الغرب الأوروبي)"، على حد قول ألكسندر دوغين، المنظر والأيديولوجي الأقرب إلى بوتين، كما تؤصل لكراهية متجذرة لأوروبا الغربية الليبرالية (جدير بالذكر أن هذه الأفكار تنتشر نسبيا وسط الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب).
في غضون ذلك، أعاد بوتين تأهيل صورة الزعيم السوفياتي خلال فترة الحرب العالمية الثانية جوزيف ستالين، الذي يُعد، كما اعترف الفيزيائي السوفياتي المنشق أندريه ساخاروف، مسؤولاً مباشرا عن قتلى بالملايين، أكثر من هتلر نفسه.
ويذهب الرئيس الروسي إلى حد الإصرار على أن الاتحاد السوفياتي كان بوسعه أن يحقق النصر في الحرب ضد ألمانيا النازية بمفرده، بينما يعترف ستالين وغيره من الزعماء السوفيات أن الاتحاد لم يكن ليتمكن من الصمود دون المساعدات الأميركية. ويدرك هؤلاء الزعماء أن الحملة الجوية الاستراتيجية التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد المدن الألمانية أجبرت الجزء الأكبر من القوات الجوية الألمانية على العودة والانسحاب من الجبهة الشرقية، الأمر الذي منح السوفيات التفوق الجوي.
وعلاوة على كل ذلك، يرفض بوتين الاعتراف بأهوال العصر الستاليني. وكما أخبرتني ماري سوامز ابنة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل في حفل عشاء عام 2003، فإن تشرشل سأل ستالين خلال اجتماع غير رسمي في أكتوبر/تشرين الأول 1944 عن الأمر الذي يندم عليه الزعيم السوفياتي أكثر من ندمه على أي شيء آخر في حياته.. أخذ ستالين بعض الوقت للتفكير قبل أن يجيب بهدوء: "قتل الكولاك"- أي الفلاحين أصحاب الأراضي.
إعلانبلغت هذه الحملة ذروتها مع المجاعة الكبرى "هولودومور" في عامي 1932 و1933، حيث تسبب ستالين عمداً في المجاعة الأوكرانية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 3 ملايين شخص، وغرس الكراهية لموسكو بين العديد من الناجين وذرياتهم.
على صعيد آخر، أنتجت الحرب العالمية الثانية توازنا غير مستقر في كثير من الأحيان داخل المعسكر الغربي بين أوروبا والولايات المتحدة، بعدما أجبرت الحرب وطموحات هتلر للهيمنة؛ المملكةَ المتحدة على التخلي عن الدور الذي عينته لنفسها كشرطي العالم، والتوجه إلى الأميركيين طلبا للمساعدة.
كان البريطانيون فخورين حقا بدورهم في النصر النهائي للحلفاء، ولكنهم حاولوا إخفاء الألم الناجم عن تراجع نفوذهم العالمي من خلال ترديد المقولة المبتذلة القائلة بأن بريطانيا "تحملت فوق طاقتها" في الحرب، وكذا من خلال التمسك "بعلاقتها الخاصة" مع الولايات المتحدة.
كان تشرشل منزعجًا من احتمال عودة القوات الأميركية إلى ديارها بعد انتهاء الحرب في المحيط الهادئ عام 1945، ورغم أن المواقف الأميركية ظلت تتذبذب بين السعي إلى دور عالمي نشط والارتداد إلى الانعزالية، فإن التهديد القادم من موسكو ضمِنَ استمرار انخراط واشنطن بشكل عميق في أوروبا حتى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.
واليوم، دخلت أول حرب قارية كبرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية عامَها الرابع، ويرجع هذا جزئيا إلى القراءة الانتقائية التي يتبناها بوتين للتاريخ الروسي، في حين تهدد الصراعات القاتلة في الشرق الأوسط وأماكن أخرى بالانتشار على نطاق أوسع، وفي الوقت نفسه، يبدو أن إدارة ترامب تتخلى عن القيادة العالمية للولايات المتحدة في خضم "حالة مزاجية مرتبكة".
قبل 80 عامًا، مهدت نهاية الحرب العالمية الثانية الطريق لنظام دولي جديد يرتكز على احترام السيادة الوطنية والحدود، ولكن الآن، ربما حان الوقت أخيرا لدفع فاتورة باهظة نتيجة التناقض الأميركي، والاستسلام الأوروبي، وشهية "الانتقام" الروسية.
أكثر من مجرد أرقام
من المؤكد أن القسوة الشديدة التي اتسمت بها الحرب العالمية الثانية ظلت محفورة في ذاكرة أجيال عديدة، حيث كان ذلك أول صراع حديث يفوق ضحاياه المدنيون -بكثير- أعداد قتلاه المحاربين، ولم يكن ذلك ليصبح ممكنا إلا من خلال نزع الصفة الإنسانية عن العدو على أساس أيديولوجي، وإثارة النزعات القومية إلى حدها الأقصى، والترويج للعنصرية باعتبارها أمرا مسلما به، فضلا عن "الحرب الطبقية" اللينينية التي أيدت إبادة جميع المعارضين.
إعلانومن اللافت للنظر أن الدبلوماسيين السوفيات كافحوا بعد الحرب لمنع ذكر الحرب الطبقية -التي شملت عمليات القتل الجماعي التي ارتكبها الاتحاد السوفياتي ضد الأرستقراطيين والبرجوازيين والفلاحين مالكي الأراضي- في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن الإبادة الجماعية.
وإجمالا، لقي قرابة 85 مليون شخص حتفهم خلال الحرب العالمية الثانية، من ضمنهم أولئك الذين قضوا بالمجاعة والمرض. لقد قتلت ألمانيا النازية الملايين، بينما فقدت بولندا خُمس سكانها (نحو 6 ملايين شخص) خلال الحرب.
وبشكل أكثر بشاعة، خسر الصينيون ما يزيد على 20 مليون إنسان، وكان عدد القتلى الصينيين من المجاعة والمرض أكبر من عدد القتلى نتيجة الصراع في ساحة المعركة، بينما تتراوح أعداد قتلى السوفيات بين 24 و26 مليونا.
كان ستالين يدرك في عام 1945 أن إجمالي الخسائر تجاوز 20 مليون إنسان، ولكنه اعترف بثلث هذه الخسارة فقط (7.5 ملايين قتيل)، محاولا على ما يبدو إخفاء الحجم الحقيقي للرعب الذي أطلقه ضد شعبه.
بيد أنه في هذا المقام لا يكفينا أن نتذكر الموتى الذين أخفى قاتلوهم عمدا هويات العديد منهم، فقد غيّر الصراع أيضا حياة الناجين وأسرى الحرب والمدنيين المسجونين في المعسكرات بطرق يتعذر الإحاطة بها. في كثير من الأحيان، كان أولئك الذين استسلموا لمصيرهم في قائمة الضحايا الأوائل، بينما كان الناجون من أولئك الذين لديهم تصميم شديد على العودة إلى أسرهم، والتمسك بمعتقداتهم، وتقديم شهاداتهم على جرائم يتعذر الحديث عنها من فرط بشاعتها.
وحتى تكتمل الصورة القاتمة، لم يتمكن العديد من الجنود الأسرى من العودة إلى ديارهم. بادئ ذي بدء، قُبض على أفراد الجيش الأحمر السوفياتي الذين جُنِّدوا قسرا من قبل الجيش الألماني أثناء وجودهم في فرنسا بزيهم العسكري الألماني وسُلِّموا إلى الضباط السوفيات الذين أعدموا القادة في الغابات ونقلوا البقية إلى الاتحاد السوفياتي، حيث حُكم عليهم بالعمل بالسخرة في الشمال المتجمد.
إعلانوبعد أيام قليلة من استسلام ألمانيا، أمرت القوات البريطانية في النمسا بتسليم أكثر من 20 ألف يوغسلافي مناهض للشيوعية في المنطقة الخاضعة لسلطتها إلى السلطات اليوغسلافية الشيوعية، التي أطلقت النار عليهم ثم دفنتهم في مقابر جماعية.
كما سلّمت القوات البريطانية السلطات السوفياتية بعض أبناء الكزاخ (أحد الأعراض السلافية الشرقية) وهم مواطنون سوفيات لكنهم قاتلوا من أجل ألمانيا. ومن المؤكد أن الحكومة البريطانية كانت تعلم أن عقوبة قاسية تنتظر هؤلاء الجنود، لكنها خشيت أن يؤدي السماح لهم بالرحيل إلى احتفاظ السلطات السوفياتية بأسرى الحرب البريطانيين الذين حررهم الجيش الأحمر في بولندا وشرق ألمانيا.
وبالمثل، جمع الجيش الأحمر 600 ألف جندي ياباني في شمال الصين ومنشوريا، وأرسلهم جميعًا إلى معسكرات العمل في سيبيريا حيث مارسوا أعمالا شاقة حتى الموت.
لعقود طويلة بعد الحرب، ظلت تلك الذكريات حية في أذهان أولئك الذين عاشوها بأنفسهم وتركت بصماتها القاسية في نفوسهم. وعلى إثر ذلك، جرى تشكيل النظام الذي تلا الحرب العالمية الثانية على يد أجيال كان هدفها منع وقوع مثل هذه المأساة مرة أخرى. ولكن بالنسبة لأولئك الذين لم يعيشوا هذا الصراع، وينظرون إلى الوراء من عالم اليوم، فإن عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية ربما يكون مجرد رقم، وهم معذورون في ذلك لأنه يصعب استيعاب حقيقة مقتل عشرات الملايين. غير أن فقدان هذه الصلة المباشرة مع الماضي يعني بالتبعية فقدان العزم المشترك الذي أنتج -على مدار 80 عاما- سلاما متصلا، وإن كان غير كامل، بين القوى العظمى.
معارك غير منتهية
خلّفت الحرب العالم مكانًا مختلفًا تمامًا. وفي الدول المتحاربة، لم يبق سوى عدد قليل من الناس الذين لم يتأثروا مباشرة بويلات الحرب، فالعديد من النساء اللواتي قُتل خُطّابهن في الحرب لم يتزوجن أبدًا ولم ينجبن أطفالًا، بينما لم يتمكن الرجال العائدون من استيعاب حقيقة أن النساء تَولين إدارة كل شيء، مما جعلهم يشعرون أنهم عديمو القيمة.
إعلانوكان رد الفعل الأقوى في أوروبا القارية. ففي ألمانيا مثلا، سمع الرجال الذين سُجنوا أثناء الحرب للمرة الأولى عن عمليات الاغتصاب الجماعي التي ارتكبها الجيش الأحمر، وشعروا بالإهانة لأنهم لم يكونوا d