هناك فرق منى أبو زيد تكتب : بريجيت وماكرون .. الكرامة تحت القصف..

*”في عالم الصورة السريعة ينجو من يحترف فن التحليق فوق رماد اللحظة، فتصبح رباطة الجأش هي الحبل المشدود بين السقوط والنجاة”.. الكاتبة..!*
قبل فترة كنتُ أتابع بثاً مباشراً يتحدث خلاله أحد السياسيين وهو يحاول أن يبتسم، بينما كانت ذبابة صغيرة تتهادى على وجهه بإلحاح، وكأنها تتعمد التعقيب بسخرية على كم الهراء الذي كان يتفوه به، على طريقتها..!
كان الموقف أشبه بمشهدٍ ساخر في إحدى مسرحيات شكسبير، حيث تتقاطع الكرامة مع الهزل. ارتباك الرجل في معالجة الموقف عزز من قناعتي بأن الذبابة كانت على حق، وأن الحضور السياسي ما هو إلا لعبة في سيرك الحياة الذي لا يصفق المتفرجون عليه إلا لمن يملك رباطة الجأش اللازمة، حتى وإن كان ما يحاول تسويقه هو محض بضاعة كاسدة..!
السياسة – كما تعلم – مسرح طويل النفس، لا يتحقق الصعود خلاله بالحوارات الرنانة والخطب المنتفخة فقط، لأن السياسي مهما بدا قوياً فهو قد يتعرض للسقوط العرضي، والارتباك العابر، والنظرة الزائغة التي تسبق الكارثة. ومثلما للحروب جنرالاتها فللإحراج ضحاياه، ولرباطة الجأش أيضاً أبطالها..!
السياسي الجيد يعرف متى يتحدث، لكن السياسي الماكر يعرف متى يبتلع الكلام، ويضحك من نفسه، ويمسح غبار الموقف دون أن يلمس ربطة عنقه. تلك لحظات لا تُدرَّس في أكاديميات العلوم السياسية، بل تُختبر على هواء البث المباشر..!
عندما لم يتردد باراك أوباما في قتل ذبابة أثناء مقابلة تلفزيونية، لم يفعل لأنها كانت تهدد الأمن القومي، بل لأنها تجرأت على اختبار هدوئه. فعلها كمن يصفع أزمة اقتصادية في اجتماع مهم، ثم علق على إنجازه بمرح كمن يلتقط فرصة إعلامية من تحت جناحها..!
وجورج بوش حين قُذف عليه ذلك الحذاء في بغداد لم يبحث عن مفر بل عن نكتة، “مقاس عشرة”، هكذا قال معلقاً على حجم الحذاء كمن يقيس ردة فعل الجماهير بمسطرة الفكاهة..!
حتى أردوغان حينما سقط أحد حراسه انحنى لمساعدته، لا بحسابات العلاقات العامة، بل كأن الجاذبية السياسية تجبرك أحياناً على أن تلمس الأرض لتبقى فوقها. ثم عاد لكلمته وكأن سقطة الحارس تلك كانت جزءاً من العرض..!
وعندما نسي جو بايدن اسم رئيس وزراء أستراليا قال “ذلك الرجل هناك”، وهي عبارة تصلح عنواناً لرواية أو قصة قصيرة، لكنه لم يعتذر، بل مرَّرها بابتسامة خفيفة، كأنه يقول للجمهور إن الذاكرة قد تخونه أحيانًا، لكن النية لا تفعل..!
أما ماكرون فقد تلقّى دفعة من بريجيت فلم يترنّح، ولم يرد، بل تمالك نفسه برباطة جأش يحسد عليها ولوح بالتحية، وابتسم ابتسامة من يعرف أن الكاميرا لا تنسى، لكنها تسامح من يضحك أولًا..!
تلك اللحظات العابرة هي التي ترسم صورة البورتريه الحقيقية للزعيم السياسي، فالكاريزما لا تصرخ، بل تهمس بثبات، وسرعة البديهة ليست زينة، بل هي درع خفي ضد قسوة اللقطة..!
في عالم صار فيه الفيديو القصير أسرع من الرأي العام، والميم أسرع من البيان، أصبح ضبط النفس مهارة سيادية، لأن من لا يستطيع أن يضحك من نفسه سيسقط لا محالة حين يضحك الآخرون..!
السياسة هي فن الظهور، لكن القيادة هي فن الانكشاف، ورباطة الجأش هي تلك المهارة النادرة التي تُحوّل الحرج إلى كبرياء، والسقطة إلى مشهد بطولي، وحينها لا يحكم الناس على السياسي من قوة خطاباته فقط، بل من أناقة وقفته حين يسقط ظله!.
تابعنا على الواتساب لمزيد من الاخبار
azzapress.com