خبر ⁄سياسي

ومضات دبلوماسية في ليل السودان الطويل

ومضات دبلوماسية في ليل السودان الطويل

ومضات دبلوماسية في ليل السودان الطويل

عبد الله قريضة
في خضم الدخان المتصاعد من حرب السودان، و توالي الانباء عن استمرار الفظائع الانسانية و ملايين الفارين، تومض اضواء دبلوماسية خافتة من عواصم بعيدة: لندن قبل شهر، وواشطن قبل اسبوع.

لقد حملت هذه المحافل والفعاليات الدبلوماسية وعوداً بدت اكثر بعداً عن واقع الارض الملتهبة بالصراع. وهكذا بدا الاجتماع الاخير في واشنطون، والذي جلس فيه نائب وزير الخارجية الامريكي كريستوفر لانداو ومستشار الرئيس لشؤون افريقيا مسعد بولس مع سفراء ثلاث دول ذات ثقل اقليمي – مصر و الامارات و المملكة العربية السعودية – فيما يعرف بـ”الرباعية الدولية” المعنية بالشأن السوداني.

لم يكن مجرد لقاء برتوكولي؛ بل كان لحظة تكشف المشهد المعقد لازمة دخلت للتو عامها الثالث، لتصبح، كما وصفها مسؤول انساني رفيع “أكبر كارثة انسانية في العالم اليوم”.

سياق مثقل بالدماء والدموع يكمن خلف بريق القاعات الدبلوماسية، فالصراع الذي اندلع في صبيحة 15 ابريل هو تتويج لسنوات من التوترات المتراكمة بعد الاطاحة بالبشير وصراع مرير على السلطة والموراد، وتجسيد لانقسامات عميقة داخل المؤسسة العسكرية والامنية، انقسامات تغذيها تدخلات اقليمية وشبكات مصالح معقدة، وبكلمة واحدة لم يكن الصراع وليد لحظته.

لقد فشلت اتفاقيات تقاسم السلطة الهشة، وتبددت آمال الانتقال الديموقراطي، ليجد السودانيون أنفسهم عالقين في حرب لا ترحم المدنيين وتستهدف بشكل مباشر اصواتهم ورغبتهم في التحرر من الشمولية. لقد حولت الحرب المساحات العامة لاطلال ودفعت اربعة ملايين الى الفرار خارج البلاد.

في هذا السياق، يأتي اجتماع واشنطن محملاً بعبء عدد من المبادرات الفاشلة، والتي لم تتمكن من لجم آلة الحرب، من جدة الى جنيف ومبادرات الايغاد و الاتحاد الافريقي… ان مهمة الولايات المتحدة في دفع الاطراف –خاصة الحكومة السودانية الممثلة بالجيش- نحو طاولة المفاوضات تبدو محفوفة بقيود جمة وتعقيدات جيوسياسية واضحة. فواشنطن رغم ثقلها الدولي تجد نفوذها مقيداً بشبكة مصالح اقليمية متضاربة، حيث ينظر الى بعض حلفائها الاقليميين كداعمين لاحد اطراف الصراع في السودان، وهو ما يمكن ان يحد من قدرتها في ممارسة ضغوط فعالة.

يضيف تاريخ العلاقات السودانية- الامريكية طبقة اخرى للمهمة المعقدة، لقد تقلبت هذه العلاقة بين العقوبات والمصالحات الجزئية، ترك هذا الاضطراب ارثاً من عدم الثقة لدى بعض الاطراف السودانية، كما ترى حكومة الامر الواقع في السودان ان الولايات المتحدة ليست حيادية، حيث اتهمت الحكومة السودانية الامارات – احد اهم حلفاء واشنطون- بشكل رسمي في دعم قوات الدعم السريع في جريمة الابادة الجماعية ضد المساليت وهو ما يجعل اي مبادرة امريكية ستبدو للحكومة السودانية كما لو انها اعادة التوزان لصالح المعتدي.

داخلياً، و بشكل واضح قد تواجه الادارة الامريكية قيوداً تتعلق بأولويات السياسة الخارجية وتخصيص الموارد الدبلوماسية في ظل التركيز على أزمات عالمية اخرى. فضلا عن ذلك، فإن الاعتماد بشكل مفرط على العقوبات كأداة للضغط قد اثبت محدودية اثره في تغيير سلوك الانظمة العسكرية المتجذرة، بل قد يقود احيانا الى تصلب المواقف او مفاقة الازمة الانسانية على الارض.

وبهذا فان المهمة الدبلوماسية للولايات المتحدة تجد نفسها في شد وجذب بين مبادئها المعلنة وواقع المصالح الجيوسياسية المعقدة والحاجة الى تحقيق استقرار، ولو هش، في منطقة استراتيجية مضطربة.

تلقي تجارب المفاوضات السابقة، سواء في جنيف او جدة أو عبر قنوات سرية اخرى، بظلال كثيفة على اي جهود مستقبلية.

الدروس المستفادة تلفت النظر الى نمط مُحبط: غياب آليات التنفيذ الفعالة لاتفاق وقف اطلاق النار يجعل الاتفاق حبر على ورق، استمرار الاطراف في السعي نحو الحسم العسكري يقلل من جديتها في السعي نحو حلول سياسية، مساهمة الاطراف الاقليمية في تغذية النزاع يحد من قدرتها على المساهمة في حله، غياب الضغط الدولي و الاصرار على مكافأة المتقاتلين يهمش مشاركة الاطراف المدينة و يضعف شرعية المخرجات. ان فشل منبر جدة و تعثر محادثات جنيف كان بسبب استمرار هذا النمط المعيق، و يؤكد هذا على ان جمع الاطراف في طاولة واحدة لا يكفي للنفاذ الى حسابات القوة و الارادة السياسية لدى المتحاربين و رعاتهم الاقليميين. يزيد التباين الملحوظ في مواقف دول الخليج – خاصة بين السعودية و الامارات – من تعقيد المشهد الدبلوماسي . فبينما تدعو السعودية الى العودة الى مسار جدة التفاوضي الذي قادته بالشراكة مع الولايات المتحدة ، و تدعو ظاهرياً الى حل سياسي ، تترد اتهامات تنفيها ابوظبي ، بأن الامارات تقدم دعماً مؤثراً لقوات الدعم السريع ، مما يقوض اي جهود محتملة لتسوية النزاع.يعكس هذا التباين تنافس اوسع على النفوذ الاقليمي بين الرياض و أبوظبي ، يلقي بظلاله على اي تحرك خليجي موحد و يعمق من الازمة الانسانية في السودان. و في ظل هذا الانقسام ، شكل منبر جدة منصة سعودية خالصة لتعظيم النفوذ في السودان، لقد برز الثقل الكبير للوساطة السعودية-الامريكية كفاعل رئيس،على حساب الوسطاء الافارقة التقليدين(الايقاد ، الاتحاد الافريقي)، وادى هذا بجانب التنافس الاماراتي السعودي على توجيه هذه المنظمات الى تحويلها للعب دور المتابع او المنسق الاقليمي و فقدت بذلك الزخم السياسي ، بينما كان من المفترض بحكمها الاقرب الى الازمة جغرافيا و سياسياً ان تلعب دوراً اكبر.حدثت ايقاد منهجيتها بشأن الوساطة في الازمة السودانية بلا جدوى ، و يطرح هذه تساؤلات حول مستقبل الوساطات الافريقية في ظل تزايد نفوذ القوى الاقليمية و الدولية الاخرى.
فما الذي تغير اذن مع اجتماع واشنطن الاخير؟ و هل يمثل هذا الاجتماع محور تحول حقيقي، ام مجرد اعادة تدوير لمواقف قديمة في ظل هذه التعقيدات المتصاعدة؟ البيان الامريكي الرسمي كان واضحاً في خطوطه العريضة : الازمة الانسانية مروعة، النزاع يهدد المصالح المشتركة، الحل لا يمكن ان يكون عسكرياً. هذه ليست بالضرورة رؤية او كلمات جديدة. لكن توقيت الاجتماع قبيل فرض عقوبات امريكية جديدة ، قد يشير الى محاولة الى استخدام الضغط الدبلوماسي جنباً الى جنب مع الادوات العقابية. كما ان حضور هذا الثلاثي – مصر ، الامارات، المملكة العربية السعودية – يطلرح تساؤلات حول محاولة واشنطن رأب الصدع و بناء جبهة موحدة ، او على الاقل تنسيق المواقف بين دول ينظر اليها على انها تملك نفوذا متبايناً و محل جدل على طرفي الصراع. القوى المدنية السودانية ، رغم ترحيبها المبدئي بالدعوة الى وقف القتال الا انها دعت الى ” الضغوط المتزايدة ” و ” سقوف زمنية ” ، مُعللةً ان البيانات وحدها لن تُسكت اصوات الرصاص.
ان الفاعلون في هذا الواقع الشائك، كثيرون و متشابكون. تسعى الولايات المتحدة الى استعادة زمام المبادرة الدبلوماسية ، ربما مدفوعة بالقلق من التداعيات الجيوسياسية الاوسع نطاقاً في منطقة البحر الاحمر و القرن الافريقي ، لكنها كما اسلفنا تواجه قيوداً و محاطة بالتعقيدات الجيوسياسية. بينما لا تزال مصالح مصر و الامارات و السعودية متضاربة و لا تزال المواقف غير منسقة بل في صدام دائم طوال سنتين من عمر الصراع، كل هذا يحدث بالتزامن مع استمرار اصرار الاطراف المتحاربة في السعي نحو التسلح و التعبئة لتحقيق الحسم العسكري رغم كلفته الباهظة كما هو واضح. بما تزال القوى المدنية السودانية – التي غالباً ما خبا صوتها بفعل ضجيج المعارك و المناورات الدبلوماسية- تبحث جاهدة عن ترتيب بيئتها الداخلية شديدة الانقسام ، وايجاد مسار سياسي بديل. و هنا تتكاثر الاسئلة الحرجة التي يتركها الاجتماع معلقة في الهواء، بل و تزداد إلحاحاً: هل تخطى اللقاء عتبة الابلاغ عن الموقف الامريكي المعتاد ، الى وضع خطة عمل فعلية و مُلزمة ، تأخذ في الاعتبار دروس الماضي و التحديات الآنية ؟ و هل يمكن لدول الرباعية ، بتاريخها المعقد و مصالحها المتضاربة احياناً في السودان ، ان تتحرك ككتلة واحدة فعالة للضغط على حلفائها المفترضين على الارض ؟ هل هذه الدول مستعدة لاستخدام ادوات الضغط بشكل حاسم يتجاوز لغة البيانات و العقوبات الرمزية، مع ادراك القيود الجيوسياسية؟ و الاهم من هذا كله كيف يمكن اقناع جنرالات الحرب بالتخلي عن السلاح و الجلوس الى طاولة مفاوضات تبدو فيها مكاسب السلام اقل اغراء من استمرار الصراع؟ كل هذ الاسئلة تحتاج الى اجابات واضحة و حاسمة . و في نهاية المطاف قد يكون الاجابة عليها هو الاساس العملي الاول نحو تسوية الصراع وليس ادارته. عموماً، الدرس المستخلص من ومضة واشنطن الدبلوماسية هذه، ومن مسار الازمة الطويل، هو التأكيد مجدداً على الفجوة الهائلة بين لغة الدبلوماسية الدولية الدولية وواقع الحروب الاهلية المعقد، حيث تتشابك فيها الاجندات المحلية و الاقليمية و الدولية. ان اجتماع السفراء، وان كان خطوة ضرورية ضمن الاعراف الدبلوماسية لإظهار الاهتمام،يظل في جوهره مجرد اعلان نوايا، يفتقر الى آليات التنفيذ الفعالة و الضمانات القوية. و بالتالي فان التحدي الحقيقي بشأن تسوية النزاع في السودان، ليس في عقد الاجتماعات و اصدار البيانات،بل في ترجمة كل هذه الجهود الى خطة عمل لاحداث تغيير ملموس على الارض ، وكذلك في ايجاد الارادة السياسية الدولية و الاقليمية لفرض حل يوقف الموت في السودان، و يتجاوز المصالح الضيقة و التنافسات العقيمة. و الى ان يحدث ذلك، سيبقى السودان غارقاً في ليل طويل، وستظل الوضمات الدبلوماسية مهما بدت براقة، غير كافية لتبديد الظلام.

altaghyeer.info