هل سيظهر الذكاء العام الاصطناعي قريبا

أبلغ سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، الرئيس دونالد ترمب خلال مكالمة هاتفية خاصة أن الذكاء العام الاصطناعي سوف يظهر قبل نهاية إدارته الحالية.
كما صرح داريو أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة «أنثروبيك»، المنافس الرئيسي لشركة «أوبن إيه آي»، مراراً وتكراراً، بأن ذلك قد يحدث في وقت أقرب من ذلك. وقال الملياردير التكنولوجي إيلون ماسك إنه قد يصبح واقعاً قبل نهاية العام.
ذكاء اصطناعي يضاهي البشري
ومثلهم مثل العديد من الأصوات الأخرى في وادي السيليكون وخارجه، يتوقع هؤلاء المديرون التنفيذيون أن وصول «الذكاء العام الاصطناعي» artificial general intelligence AGI بات وشيكاً. فمنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما اعتنت مجموعة من الباحثين الهواة بوضع هذا المصطلح على غلاف كتاب يصف أنظمة الكمبيوتر المستقلة التي يأملون في بنائها يوما ما، أصبح الذكاء العام الاصطناعي بمثابة اختصار لتكنولوجيا مستقبلية تحقق ذكاء على مستوى الإنسان.
لا يوجد تعريف مستقر للذكاء العام الاصطناعي، وإنما هو مجرد فكرة جذابة: ذكاء اصطناعي يمكنه أن يضاهي قدرات العقل البشري المتعددة.
ولكن منذ وصول روبوتات الدردشة الآلية مثل «تشات جي بي تي» من «أوبن إيه آي»، والتحسين السريع لهذه الأنظمة الغريبة والقوية على مدى العامين الماضيين، صار العديد من خبراء التكنولوجيا أكثر جرأة في التنبؤ بمدى قرب وصول الذكاء العام الاصطناعي. حتى إن البعض يقول إنه بمجرد أن يطلقوا الذكاء العام الاصطناعي، سوف يتبع ذلك ابتكار أكثر قوة يسمى «الذكاء الخارق» «superintelligence».
تكهنات تسبق الواقع
وبينما تتنبأ هذه الأصوات الواثقة دوماً بالمستقبل القريب، فإن تكهناتها تسبق الواقع. وعلى الرغم من أن الشركات تدفع بالتكنولوجيا إلى الأمام بمعدل ملحوظ، فإن جيشاً من الأصوات الأكثر رصانة يسارع إلى تبديد أي مزاعم بأن الآلات من شأنها أن تضاهي الذكاء البشري في أي وقت قريب.
يقول نيك فروست، مؤسس شركة «كوهير» الناشئة للذكاء الاصطناعي، الذي عمل سابقاً باحثاً لدى «غوغل»، وتتلمذ على يد أكثر باحثي الذكاء الاصطناعي احتراماً خلال الخمسين سنة الماضية: «إن التكنولوجيا التي نبنيها اليوم ليست كافية لتحقيق ذلك. وما نقوم ببنائه الآن هو أدوات تستوعب الكلمات وتتنبأ بالكلمة التالية الأكثر احتمالاً، أو تستقبل وحدات البكسل (عنصر الصورة) وتتنبأ بالبكسل التالي الأكثر احتمالاً. وهذا مختلف تماماً عما نفعله أنا وأنت من البشر».
في استطلاع حديث أشرفت عليه «جمعية النهوض بالذكاء الاصطناعي»، وهي جمعية أكاديمية عمرها 40 عاماً، وتضم بعضاً من أكثر الباحثين بروزاً في هذا المجال، قال أكثر من ثلاثة أرباع المشاركين في الاستطلاع إن الأساليب المستخدمة في بناء التكنولوجيا الحالية من غير المرجح أن تؤدي إلى الذكاء العام الاصطناعي المأمول.
وتختلف الآراء بشأن ذلك جزئياً، نظراً لأن العلماء لا يستطيعون حتى الاتفاق على طريقة لتعريف الذكاء البشري، ويتجادلون إلى ما لا نهاية حول مزايا وعيوب اختبارات الذكاء وغير ذلك من المعايير الأخرى. كما أن مقارنة أدمغتنا بالآلات هو أمر أكثر ذاتية وشخصانية. وهذا يعني أن تحديد الذكاء العام الاصطناعي هو في الأساس مسألة رأي.
استقراءات إحصائية وتفكير حالم
وليس لدى العلماء أي دليل قاطع على أن تقنيات اليوم قادرة حتى على أداء بعض أبسط المهام التي يمكن للدماغ البشري القيام بها، مثل إدراك المفارقات الساخرة أو الشعور بالتعاطف. وتستند مزاعم الوصول الوشيك للذكاء العام الاصطناعي إلى استقراءات إحصائية - وتفكير حالم ليس أكثر.
ووفقاً للاختبارات المعيارية المختلفة، تتحسن التقنيات الحالية بوتيرة ثابتة في بعض المجالات البارزة، مثل الرياضيات وبرمجة الكمبيوتر. لكن هذه الاختبارات لا تصف سوى جزء صغير مما يمكن للبشر القيام به.
يعرف البشر كيفية التعامل مع عالم فوضوي ومتغير باستمرار. من جهتها تكافح الآلات لإتقان ما هو غير متوقع - التحديات الصغيرة والكبيرة التي لا تشبه ما حدث في الماضي. يمكن للبشر أن يحلموا بأفكار لم يشهدها العالم من قبل. وعادة ما تكرر الآلات أو تعزز ما شاهدته من قبل.
ولهذا السبب يقول فروست وغيره من المشككين إن دفع الآلات إلى مستوى الذكاء البشري سوف يتطلب على الأقل فكرة واحدة عظيمة لم تخطر على بال علماء التكنولوجيا في العالم بعد. ولا توجد طريقة لمعرفة كم من الوقت سوف يستغرق ذلك.
يقول ستيفن بينكر، عالم الإدراك في جامعة هارفارد: «إن النظام الذي يتفوق على البشر في إحدى الطرق لن يكون بالضرورة أفضل من البشر في طرق أخرى. وبكل بساطة، لا يوجد شيء من هذا القبيل مثل نظام آلي كلي المعرفة والقدرة على حل كل المشاكل، بما في ذلك المشاكل التي لم نفكر فيها بعد. هناك إغراء للانخراط في نوع من التفكير السحري. ولكن هذه الأنظمة ليست معجزات. وإنما هي أدوات رائعة للغاية فحسب».
يمكن للذكاء الاصطناعي تحقيق ذلك
تُدار روبوتات الدردشة، مثل «تشات جي بي تي»، بواسطة ما يسميه العلماء الشبكات العصبية، وهي أنظمة رياضية قادرة على تحديد الأنماط في النصوص والصور والأصوات. ومن خلال تحديد الأنماط في كميات هائلة من مقالات ويكيبيديا والقصص الإخبارية وسجلات الدردشة، على سبيل المثال، يمكن لهذه الأنظمة أن تتعلم توليد نصوص تشبه ما يقدمه الإنسان من تلقاء نفسها، مثل القصائد وبرامج الكمبيوتر.
وتتقدم هذه الأنظمة بوتيرة أسرع بكثير من تقنيات الكمبيوتر في الماضي. ففي العقود السابقة، كان مهندسو البرمجيات يبنون التطبيقات بسطر واحد من التعليمات البرمجية في كل مرة، وهي عملية صغيرة خطوة بخطوة لا يمكن أن تنتج شيئاً قوياً مثل «تشات جي بي تي». ولأن الشبكات العصبية يمكن أن تتعلم من البيانات، فإنها تستطيع الوصول إلى آفاق جديدة وبسرعة عالية.
وبعد رؤية التحسن الذي طرأ على هذه الأنظمة على مدى العقد الماضي، يعتقد بعض خبراء التكنولوجيا أن التقدم سوف يواصل الاستمرار بالمعدل نفسه تقريباً وإلى حد كبير - وصولاً إلى الذكاء العام الاصطناعي وما بعده.
يقول جاريد كابلان، كبير المسؤولين العلميين في شركة «أنثروبيك»: «هناك كل هذه الاتجاهات التي تتلاشى فيها كل هذه القيود. إذ يختلف ذكاء الذكاء الاصطناعي تماماً عن الذكاء البشري. فالبشر يتعلمون بسهولة أكبر بكثير لمباشرة مهام جديدة. فهم لا يحتاجون إلى التدريب بقدر ما يحتاج الذكاء الاصطناعي إليه. ولكن في نهاية المطاف، ومع المزيد من الممارسة، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصل إلى ذلك».
من بين باحثي الذكاء الاصطناعي، يشتهر كابلان بنشره بحثاً أكاديمياً رائداً يصف ما يُسمى الآن «قوانين القياس» (the Scaling Laws). وتنص هذه القوانين بصفة أساسية على أنه كلما زاد عدد البيانات التي يحللها نظام الذكاء الاصطناعي، كان أداؤه أفضل. وتماما وكما يتعلم الطالب المزيد من خلال قراءة المزيد من الكتب، يكتشف نظام الذكاء الاصطناعي المزيد من الأنماط في النص ويتعلم محاكاة الطريقة التي يضع بها الناس الكلمات بصورة أكثر دقة.
خلال الأشهر الأخيرة، استهلكت شركات مثل «أوبن إيه آي» و «أنثروبيك» أغلب النصوص الإنجليزية الموجودة على الإنترنت تقريباً، ما يعني أنها بحاجة إلى طريقة جديدة لتحسين روبوتات الدردشة الخاصة بها. لذا، فإن هذه الشركات تعتمد بشكل أكبر على تقنية يسميها العلماء «التعلم المُعزز». من خلال هذه العملية، التي يمكن أن تمتد على مدى أسابيع أو أشهر، يمكن للنظام أن يتعلم السلوك من خلال التجربة والخطأ. فمن خلال العمل عبر حل آلاف المسائل الرياضية، على سبيل المثال، يمكن أن يتعلم النظام أي الأساليب تؤدي إلى الإجابة الصحيحة وأيها لا يؤدي إليها.
وبفضل هذه التقنية، يعتقد باحثون مثل كابلان أن قوانين القياس (أو شيئاً من هذا القبيل) سوف تستمر. ويقول الباحثون إنه مع استمرار هذه التقنية في التعلم من خلال التجربة والخطأ في مجالات لا تعد ولا تحصى، فإنها سوف تتبع مسار آلة «ألفا غو - AlphaGo»، وهي آلة تم إنشاؤها في عام 2016 من قبل فريق من باحثي «غوغل».
تعلمت آلة «ألفا غو»، من خلال التعلم المعزز، إتقان لعبة «غو»، وهي لعبة لوحية صينية معقدة تُقارن بالشطرنج، من خلال لعب ملايين المباريات ضد نفسها. وفي ذلك الربيع، تغلبت على أحد أفضل اللاعبين في العالم، ما أذهل مجتمع الذكاء الاصطناعي والعالم بأسره. وقد افترض أغلب الباحثين أن الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى 10 سنوات أخرى لتحقيق مثل هذا الإنجاز.
الفجوة بين البشر والآلات
لا جدال في أن آلات اليوم قد تفوقت بالفعل على العقل البشري في بعض النواحي، ولكن هذا صحيح منذ فترة طويلة. فالآلة الحاسبة يمكنها إجراء العمليات الحسابية الأساسية أسرع من الإنسان. ويمكن لروبوتات الدردشة الآلية مثل «تشات جي بي تي» أن تكتب بوتيرة أسرع، ويمكنها في أثناء الكتابة أن تستخلص على الفور نصوصاً أكثر مما يمكن لأي عقل بشري أن يقرأه أو يتذكره. كما تتفوق هذه الأنظمة على الأداء البشري في بعض الاختبارات التي تنطوي على رياضيات وبرمجة عالية المستوى.
ولكن لا يمكن اختزال البشر في هذه المعايير. إذ يقول جوش تينينباوم، أستاذ العلوم المعرفية الحاسوبية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «هناك أنواع كثيرة من الذكاء في العالم الطبيعي».
أحد الفروقات الواضحة هو أن الذكاء البشري مرتبط بالعالم المادي، فهو يمتد إلى ما وراء الكلمات والأرقام والأصوات والصور إلى عالم الطاولات والكراسي والمواقد والمقالي والمباني والسيارات وأي شيء آخر نواجهه مع مرور كل يوم. وجزء من الذكاء هو معرفة متى تقلب الفطائر المحلاة الموضوعة على صينية الخبز.
تباشر بعض الشركات بالفعل تدريب الروبوتات الشبيهة بالبشر بالطريقة نفسها التي تدرب بها شركات أخرى روبوتات الدردشة. لكن هذا الأمر أكثر صعوبة ويستغرق وقتاً أطول من بناء روبوتات الدردشة الآلية التي تتطلب تدريباً مكثفاً في المختبرات المادية والمستودعات والمنازل. كما أن الأبحاث الروبوتية متأخرة بسنوات عن أبحاث روبوتات الدردشة الآلية.
ومن ثم، فإن الفجوة بين الإنسان والآلة أوسع من ذلك. ففي المجالين المادي والرقمي، لا تزال الآلات تكافح لمضاهاة أجزاء الذكاء البشري التي يصعب تعريفها.
يقول ماتيو باسكينيللي، أستاذ فلسفة العلوم في جامعة كا فوسكاري في البندقية بإيطاليا: «يحتاج الذكاء الاصطناعي إلينا: كائنات حية، مستمرة في الإنتاج، وتغذي الآلة. إنه يحتاج إلى أصالة أفكارنا وحياتنا».
خيال مثير
بالنسبة لأناس داخل صناعة التكنولوجيا وخارجها، يمكن أن تكون مزاعم الذكاء العام الاصطناعي مثيرة. فقد حلم البشر بخلق ذكاء اصطناعي منذ أسطورة «الغوليم Golem: كائن أسطوري يُصور على هيئة بشرية من الطين» التي ظهرت منذ القرن الثاني عشر. هذا هو الخيال الذي يحرك أعمالاً مثل «فرانكشتاين» لماري شيلي، و«2001: ملحمة الفضاء» لستانلي كوبريك.
والآن بعد أن أصبح الكثيرون منا يستخدمون أنظمة الكمبيوتر القادرة على الكتابة وحتى التحدث مثلنا، فمن الطبيعي أن نفترض أن الآلات الذكية قد باتت قريبة الظهور. وهو ما كنا نتوقعه منذ قرون.
عندما أسست مجموعة من الأكاديميين مجال الذكاء الاصطناعي في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، كانوا متأكدين من أن الأمر لن يستغرق وقتاً طويلاً لبناء أجهزة كمبيوتر تعيد إنشاء الدماغ. وجادل البعض بأن الآلة سوف تهزم بطل العالم في الشطرنج وتكتشف نظريتها الرياضية الخاصة بها في غضون عقد من الزمن. ولكن لم يحدث أي من ذلك في الإطار الزمني المذكور نفسه. وبعضها لم يحدث بعد.
ويرى العديد من الأشخاص الذين يبنون تكنولوجيا اليوم أنهم يحققون نوعاً من المصير التكنولوجي المحدد، ويدفعون نحو لحظة علمية حتمية، مثل اختراع النار أو القنبلة الذرية. لكنهم لا يستطيعون أن يشيروا إلى سبب علمي يوحي بحدوث ذلك قريباً.
ولهذا السبب يقول العديد من العلماء الآخرين إن أحداً لن يصل إلى الذكاء العام الاصطناعي من دون فكرة جديدة - شيء ما يتجاوز الشبكات العصبية القوية التي تكتفي بالعثور على الأنماط في البيانات - وقد تظهر هذه الفكرة الجديدة غداً. ولكن حتى ذلك الحين، سوف تحتاج الصناعة إلى سنوات لتطويرها.
* خدمة «نيويورك تايمز».
aawsat.com